الإسكندرية، عروس البحر المتوسط، باتت اليوم مدينة مكسورة الملامح، تخفى بحرها خلف جدران خرسانية، وكافيهات مُسعَّرة، ومبانٍ عشوائية تجرّدت من أى حس بالمسئولية الجمالية أو الاجتماعية. من سمح لكل هؤلاء أن يبنوا بهذا الشكل العشوائى على البحر؟ من منح التراخيص - -إن وُجدت أصلاً - لتلك الكتل الخرسانية التى صعدت على الشاطئ كغُرَباء لا يفهمون البحر، ولا يعترفون بحق الناس فى رؤيته؟ من جعل المرور على الكورنيش اليوم رحلة بصرية محبطة، لا ترى فيها إلا واجهات مقاه مُزدحمة، أو مبانى مرتفعة تحجب الشمس والهواء عن المدينة وسكانها؟ إن المشى على كورنيش الإسكندرية لم يعد نُزهة كما كان، بل أصبح استعراضاً للطرد الرمزى من البحر. المارّة، مشاةً كانوا أم راكبين، لا يجدون سبيلاً لرؤية الأمواج التى كانت تُغنى وحدها، دون حاجز ولا بواب ولا قائمة أسعار. أصبح الدخول إلى «المشهد الطبيعي» نفسه خاضعاً للرسوم، كأن البحر تحوّل إلى سلعة تُباع وتُؤجَّر. كافيهات بلا حصر، تشغل الشواطئ العامة، تُجبر الناس على الجلوس بمقابل مادى حتى وإن أرادوا فقط أن يلتقطوا أنفاسهم أمام الموج. هذه الكافيهات استولت على الفضاء العام، وفرضت نمطاً من الاستهلاك على أبسط لحظات الفرح الشعبي. لقد فقدت الإسكندرية أحد رجالها الكبار، اللواء عبد السلام المحجوب، الذى أدرك باكراً أن البحر ليس لأحد بعينه، بل هو حق جماعى لكل من يمر، ومن لا يملك شيئاً إلا النظر والهواء. هذا الرجل، حين وسّع طريق الكورنيش ومنع البناء على الشاطئ، لم يكن يُنفذ مشروعاً هندسياً فقط، بل كان يؤمن بفكرة: أن المدينة للجميع، والبحر للجميع، والفضاء العام ليس للبيع. فمن الذى أباح اليوم ما حرّمه الضمير والذوق والمصلحة العامة؟ من الذى سمح بتغيير وظيفة الشاطئ من فضاء إنسانى إلى استثمار خاص؟ من الذى صمت حين بدأ البحر يُختطف مترًا تلو الآخر؟ إنها ليست مجرد أزمة تخطيط أو غياب رقابة، بل أزمة رؤية وعدالة حضرية. فهل هناك من يستمع؟ هل هناك من يملك الشجاعة ليعيد للبحر مَن حُرِموا منه؟ أم أننا سنُسجل فصول جريمة جمالية جديدة، تُرتكب على مرأى الجميع... ولا أحد يتحرك.