محمود عبده إذا تأملتَ فى التصميم الأساسى للكون فستجد أن أصحاب القلوب الرحيمة ب الحيوانات يتوزعون بشكل رائع على وجه الأرض، وفى حيِّنا -مثلاً- لا يكاد يخلو شارع من واحد أو واحدة منهم. وأنا كثيرًا ما صادفت هؤلاء الطيبين والطيبات يمارسون رحمتهم بالحيوانات فى أماكن مختلفة، فى الشوارع المحيطة أو فى الحديقة القريبة من شارعنا، وفى الدور السابع من العمارة التى أسكن بها تعيش واحدة من هذه النوعية من البشر اسمها سعاد، اشتهرت سعاد بين السكان بطاقتها الاستيعابية الكبيرة لكل أنواع الحيوانات وحبها الشديد لهم، فلا يكاد يمر يوم أو يومان إلا وترى بصحبتها كلباً أو قطة أو أرنباً أو غير ذلك مما قد لا يخطر لك على بال، بل إنها ذات يوم أُعجبت بعرسة ولن تعرف أبدًا كيف استطاعت أن تغويها وتقنعها بأن تسير وراءها، تستدرجها كأنها مسلوبة الإرادة حتى باب شقتها، الصدفة وحدها هى التى أفسدت عليها مخططها عندما لمحتها الست أم سعاد توشك أن تخطو إلى داخل الشقة فأطلقت صرخة مدوية عابرة للقارات، بالطبع فزعت العرسة وسارعت بالهرب ولا بد أنها كونت فكرة شديدة السوء عن أمزجة هذه الكائنات العملاقة -بالنسبة لها- المسماة بالبشر، أما أكثر ما أحزن سعاد وأثر فى نفسيتها فهو شكها فى أن العرسة صدَّرت هذه الفكرة إلى أقرانها وقريناتها من العرس والعرسات مما أحبط كل محاولاتها التالية لاستدراج عرسة أخرى إلى الشقة، أوشكت أن تيأس فتُسقِط هذا الصنف من الكائنات من حساباتها، أخبرتنى بهذا من بين دموعها وهى تشكو بكل أسى السنين. ومن بين كل هذه القطط والكلاب التى كانت تقتنيها سعاد أو تعطف عليها كان لقطٍ اسمه شلبى وجود مؤثر فى حياتنا وحياة سكان شارعنا والشوارع المجاورة، نوعه شيرازى كثيف الشعر وعادة ما يبدو لمن لا يعرفه كأنه كتلة من الصوف غير المنسوج مكومة فى أحد الأركان، وهو نموذج شديد الواقعية لتكريس الحياة كلها من أجل اللا شىء، شغفه الوحيد هو أن يقضى قدر ما يستطيع من ليله ونهاره نائمًا أو متكورًا مع ارتخاء دائم فى الجفنين بلا فعل ولا رد فعل تجاه أى شىء باستثناء طبق طعامه، حتى الطعام قد يكسل عن تناوله إذا تأخرت عنه سعاد أو إذا وضعته له فى مكان غير الذى اعتاد عليه، ومن حين إلى آخر ربما يفقد شغفه تجاه النوم فيقوم بتمشية قصيرة هنا أو هناك وعندما يدرك خطأه فإنه يتوقف فى موضعه على الفور ليعود إلى النوم، ربما يختفى لبعض الوقت قبل أن يظهر من جديد، وهو لا يصدر أى صوت، هدوء تام وصمت يجسدان حكمة خلاصتها أنه لا جدوى ولا معنى لأى شىء، باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح. شلبى لم يكن حتى يموء ليس عن خرس ولكن عن كسل، وربما أن النشاط الوحيد الذى كان يقوم به هو إغماض عينيه ومط رقبته فى استمتاع عندما يقوم أحد بفركها له من باب التدليل، ربما ينقلب ببطء على ظهره ويترك له بطنه كى يقوم بفركها أيضًا وحتى قد يكسل عن هذا. وكان لشلبى شخصية شديدة اللطف مع إناث القطط ولديه كاريزما تشبه تلك التى امتلكها عمر الشريف فى عالم البشر، كان بارعًا لدرجة أن عشرات من إناث القطط كانت تخاطر بعبور المنطقة الخطرة التى يبسط عليها صفوت نفوذه فى مدخل العمارة، وصفوت لا يحب القطط ولا يتحمل مجرد مرورها من أمامه ولا يتورع عن ضربها أو إيذائها بشتى الطرق، بالنسبة للقطط فإن صفوت هو النقيض الموضوعى الكامل لسعاد. رغم ذلك تمتعت القطط بقدر بسيط من الذكاء مكنها من أن تكمن وتترقب ذهابه لشراء طلبات أى من السكان لتتسرب بسهولة دون أن يقفشها أو يراها، تصعد بعدها السلم برشاقة تليق بقطة آنسة فى مقتبل العمر لم تؤثر عليها بعد الترهلات التى تسببها الأطعمة المليئة بالدهون المهدرجة التى يتركها لهم البشر. وكان شلبى من اللباقة بحيث لا يتردد فى قطع وقت فراغه الطويل بما يكفى لإشباع كل هؤلاء الزائرات، ويبدو أن هذه اللباقة وحسن المعاملة أسهمت كثيرًا فى تكوين سمعة حسنة له تتبادلها القطط فيما بينها، فذاع صيته. وعلى مدى سنوات ظل شلبى ينشر صفاته الوراثية عبر كل قطط المنطقة لدرجة أنه صار من الصعب ألا تلحظ وجود هذه الصفات فى كل قط تصادفه فى طريقك اليومى من وإلى محطة المترو القريبة، لا أريد أن أتوسع فى مزيد من التفصيلات حول جينولوجى القطط وصفاتهم الوراثية حتى لا أفسد القصة إنما المهم أن شلبى صار أسطورة بالنسبة لقطط المنطقة، بل ربما بالنسبة لقطط الحى أو حتى قطط المدينة كلها. رغم كل هذا التاريخ الحافل يأتى القدر ويأبى إلا أن تنتهى هذه الأسطورة نهاية عبثية على يد نصف خيارة تركتها سعاد فى طبق على الكنبة المجاورة للنافذة التى اعتاد شلبى أن يتشمس عندها، ترتعب القطط عامة لمجرد رؤية خيارة ملقاة بجوارها، ويبدو أنها تتصور أنها ثعابين أو كائنات مشابهة يمكن أن تلحق بها الضرر، يمكنك أن تجد مئات الفيديوهات على الإنترنت لقطط تصاب برعب كبير إذا غافلتها ووضعت بجوارها خيارة، تقفز وتتشنج وتموء بصوت عالٍ فى محاولة يائسة للنجاة من رعب الخيارة، وهذا بالضبط ما فعله شلبى عندما تفاجأ بخيارة تقتحم عليه خلوته وتفسد حمام الشمس اليومى الذى تعود على أن يستمتع به، قفز شلبى عاليًا جدًا من سور النافذة وعندما هبط لم تلتقِ أقدامه بالسور وإنما ساحت فى الفراغ الذى يطل عليه، سقط من الطابق السابع وفى رمشة عين ارتطم بالأسفلت الصلب فى لحظة مرور سيارة مسرعة قضت على أى فرصة ضئيلة متبقية لنجاته. فى طريقى إلى البيت فى ذلك اليوم مررت بموضع الحادث الأليم وكان مشهدًا عجيبًا تجمُّع كل هذا الحشد من القطط، مواؤهم الحزين ونظراتهم الشاردة، بدوا كلهم من أبناء وأحفاد الفقيد فقد حملوا نفس صفاته وألوانه وكأنهم جميعًا تمت صناعتهم بالذكاء الاصطناعى، أو كأنهم دمى قطنية متطابقة محشوة ومستوردة من الصين، لا بد أنهم جاءوا ليشيعوه إلى مثواه الأخير وربما جاء آخرون لتقديم واجب العزاء، ربما أيضًا كانوا يتعاهدون على مواصلة مشواره القططى فى الاستلقاء تحت الشمس والسير كسيرته الحسنة فى التكاثر.