محيى الدين جرمة يمنح كتاب «شرفة آدم» للشاعر والصحفى الأردنى حسين جلعاد القارئ محتوي غزيرا من الثراء والتعدد الأجناسى بحدس ذكى. وهو إلي ذلك سفر متغاير يجترح أفقا فى الكتابة إذ تنظر العين من «شرفته» لتطل علي: حوارات مع أدباء وشعراء ومفكرين. وما يتضمنه الكتاب أيضا من دلالات تحيل إلي الذاكرة وتاريخ الأرشيف. وتراكمات التجربة الصحفية بمهنية في الرصد والتحليل والنقد والتعالقات مع الفلسفى والمعرفى ورحابة الأسئلة والرؤي المشتبكةٕ عبر تمثيلات الخطاب فى تماس بتواريخ وشخصيات ومحاور جديدة وجديرة بالتلقى والتفاعل العميق لمضان هذا الملف الضخم الذى تربو صفحاته علي 320 وصدر فى طبعته الأولي 2025 عن: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. يمكن تصنيف «شرفة آدم» ضمن جنس النصوص النثرية الأدبية، وتحديدًا الكتابة التأملية ببهارات شعرية، أو ما يمكن تسميته ب النثر الشعرى المعجون بالمفارقات، وهو جنس يقع بين الشعر والنثر، ويعتمد على اللغة الكثيفة، والانزياحات البلاغية، والتكثيف الرمزى، مع حضور ذاتى وتأملى واضح يكشف عن الاشتغال الجوانى فى التدوين بصوغ أدبى يفارق لغة التقرير إلي جملة مقتصدة واستهلالات أبقت علي تواصل وشغف لاقتفاء معانى ودلالات كثيرة مبثوثة فى غير موضع من الكتاب. لا يعد «شرفة آدم» بهذا المعني ديوانًا شعريًا علي نحو من العتاقة بمكان. ولا سردًا قصصيًا، بل مجموعة من التأملات الوجودية، والومضات الفلسفية، والرؤى الفكرية التى صيغت بلغة شاعرية مكثفة. ينطوى خلالها عنوان الكتاب «شرفة آدم» على حمولات دلالية رمزية وفلسفية لافتة. وحيث ال«شرفة» تدل على الارتفاع، الملاحظة من مسافة، التأمل من الخارج أو من الأعلى؛ من مكان يتسم بالهدوء والانفصال الجزئى عن الداخل والواقع، مما يوحى بأن النصوص تأملات من موقع منفصل أو مغاير. كما يحيل «آدم» إلى الإنسان الأول، إلى الأصل، إلى الكينونة البشرية فى أنقى وأول صورها، وبما يحمل من دلالة على التجربة الإنسانية الشاملة ونزوعاتها فى الحياة والمعاش. ان التركيب الإضافى بين «شرفة» و«آدم» قد انتج مجازًا فلسفيًا: ليمنحنا أثناء القراءة تأملات شتي تبدو كرؤى مكتوبة من «شرفة الوجود الإنسانى» أو كمهد له، ومهاد لولاداته ومن زاوية أخري تطل على تجربة الإنسان فى لحظة بدئية وكونية. يوحى «شرفة آدم» لقارئه كأنما يسير فى «نزكة مشتاق» ورحلة كوكبية تتأمل فى أمداء العالم ضاما تجربة و«سيرة أشياء» وعناصر وأفكار ومفاهيم عدة يبحث خلالها فى دلالات: الوجود والهوية، واللغة، والزمن، والمعنى، وتمتاز بجمالية لغوية واضحة، واستخدام مكثف للمجاز والصورة الشعرية، كما تجنح تجربة حسين جلعاد فى هذا الكتاب إلى المغامرة والكشف: إلي أسلوب يراوغ الأجناس الأدبية، مما يجعله نصًا هجيناً، يختبر الحدود بين الفكر والشعر. أردت فى الحقيقة معرفة الانسجام الثقافى والفكرى فى معطي بانورامى يضم بين دفتيه سردية متنوعة لمحطات ومواقف تستدعى جماليات الفعل الثقافى كما يستدرك بحثاً عن المفقود فى نوستالجيا الكتابة ذاتها، ومما اكتنزه الكاتب من أرشيف تداعياته و تجربته فى الصحافة الثقافية، الأمر الذى شكل مادة عميقة بين الحوار والنقد المضمر فى سياقاته وبين تساوقات الرؤية التي تمهد للحكاية وموقف الصحفى فى تحقيق بانوراما الحياة والتمهيد لأسفارها عبر شغف ومتعة القراءة البصرية. وبالرغم مما قد يوشى محطات الرحلة ومهامها من «متاعب الصحافة» إبان مجدها الورقى، فإن «شرفة آدم» يبدو، كلما أوغلنا فى تتبع مسار المادة المتنوعة التي ضمها، يحافظ كخطاب علي مساحات وفراغات من الانفساح النفسى لمن تستغرقه القراءة فى نزهة بصرية للحواس سيجد نفسه بإزاء مادة ثقافية- فكرية شاملة، تتسم بوعى نقدى وأدبى، ومعه قد يشعر القارئ بنفسه ضيفا فى جزيرة نائية تتقاطع فيها الأحلام والرؤي والتصورات فيما تستنهض بنيته مشروعًا نصيًّا متعدد الطبقات والمرجعيات، يحمل مزيجًا من الأجناس، ويستثمر التجربة الصحفية كعدسة لرؤية الوجود والفكر والذات والعالم. إن ثمة انسجامًا فكريًا وثقافيًا فى زاوية التلقى، والتفكير فى النص. حيث تجسر العبارة والنظرة إلي «شرفة آدم» ومن خلالها كمعطي يمثل حقلاً تفاعليًا لا يُستنفد فى قراءة واحدة، قدر استنطاق مستوياته المتعددة. وعند ملامسة الحدود داخل الأجناس والحقول: نجد أن «شرفة آدم» يقترح كتابة هجينة بين الأدب والفكر، بين الحوار والتأمل، بين المقالة والنقد وعرض تجارب أخري فى القصة واتساع مجال الرؤية الشعرية فى مقاربة الفكر وهوامش الآداب والفنون والنصوص المجاورة الأخري، وهو بهذا المعنى يفرض مقاربة متعددة الأدوات: نقد أدبى، تحليل ثقافى، أنثروبولوجى أحايين. وأمام كثافة المضمون والحيز، يحقق حسين جلعاد امتياز استدعاء الذاكرة والأرشيف: عبر حضور التاريخ الثقافى العربى والعالمى، والذاكرة الفردية والجمعية، كما يستدعى أكثر من خيار جمالى ومعرفى للقارئ كمجلي آخر لصورة انعكاسه فى مرآة وعى مثقف عاصر سياقاته وأنساق مجتمعاته العربية بكل سهولتها وتعقيداتها، عبر سرد غير تقليدى، يتقاطع مع محكيات الآخرين: أدباء، مفكرين، روائيين وشخصيات وخصوصيات وتجارب. فى نوع من الكتابة الحوارية المتقاطعة، ومتجاورا مع سمات الخطاب الفلسفى والأنطولوجى فى وجوداته وحركته المكانية الضاجة بالحياة والأسئلة. الكتابة فى «شرفة آدم» لا تطرح أجوبة بقدر ما تنحت أسئلة بسيرورات تفتح نوافذ لتسرب الهواء ورياح الزمن، ما يجعل منها مادة خصبة للقراءة وتحولات الخطاب والحنين. ولعل خبرة حسين جلعاد الصحفية قد أضافت من روحها وبوحها الكثير وأعطت بعدًا ميدانيًا للتأملات، كما نجد الحسّ التوثيقى والتحليلى متلازمين فى حدس الانتباه لتفاصيل الوجوه والأمكنة والزمن السياسى والثقافى ما ثلين أيضا بقوة تكتنز معرفة ودربة فى زاوية النظر والالتقاط.ما أثري المتن النقدى والسياقى لموضوعاته الكثيرة. خاصة منها تلك التى انطلقت من مدخل يجمع التحليل النصى، بسيمياء التمثيل، وقراءة تفاعلاته مع السياق الثقافى والسياسى والمعرفى فى العرض والرؤية. شعرت وأنا أقرأ فى «شرفة آدم» بشىء من الائتلاف والتقارب فى الرؤية والمنهج وتأويلات التلقى الذي وإن اتكأ نوعا ما علي سمات تفاعلية بعينها كدليل للبناء علي الفكرة إلا أن تجاورات المعطي الإبستمى لنصوص الكاتب المتعددة ثقافيا ومهنيا دلت علي قلم فذ وشخصية مثقف عضوى غارق فى هم مجتمعه وأمته وقضاياه. لقد أخذ حجم الاستبصار النقدى لمستوعبات الكتاب هنا ينشر فى غير ما مكان وموضع لطيف مواده المختلفة وأقسامه وفصوله لافتا إلي حضور الكاتب بشخصيته وتجربته وجذاذات من سيرية السياق الاجتماعى والثقافى المعاصر له وهى سمات كما أراها تدمغ تجربة فارقة للكاتب والكتاب وما يتعلق منها كذلك بطبيعة ما يعد فى الفكر والفلسفة إنتاجا للأفكار والمفاهيم. يستكشف الكاتب في نصوصه المتفرقة علي امتداد فهرس يحيل إلي غني مواضيعه ومحاوره. ملامسا عوالم وفضاءات التنويع الأجناسى بما تكتنفه رؤيته الثاقبه فى المراقبة والاستشعار الدافئ لتفاصيل دقيقة تُري من «شرفة آدم» كمحتوي يقدم مفارقة فى التوثيق لمحطات ومواقف تشتغل أسلوبية الكاتب من خلالها علي ما يشبه التأريخ لسيرية الأشخاص والأمكنة وأزمنة الثقافة والسياسة وتعريتها حد التناقضات. إن محتوي الكتاب زادته لغة وثقافة الشاعر نضارة ليأخذ ملمحا من السيرية الباذخة فى شق من حدود ممكناتها وجرأتها وصدقها لتحيل فى ذاتها إلي نصٍ مكتمل فى وعيه النقدى وجماله التعبيرى، يعكس ذائقة عالية وقدرة على الإنصات للنصوص لا بوصفها بنيات لغوية فحسب، بل بِنى دالة تشتبك مع التاريخ والذاكرة والسياق. حيث يكشف الكتاب فى جانب من «تحدى القراءة» عن اختبار مضمر لقارئ مفترض وهو ما ينم : عن كاتب ضليع/ وقارئ نهم لا يكتفى بالتماس مع ظاهر النص، بقدر ما يتوغل فى طبقاته الدنيا، ويؤمن بأن كل كتابة جادة- تستدعى القراءة كإطلالة يحدوها الشغف من «شرفة آدم» التى تبقى بشكل ما علي صورة عميقة من التحليل الثقافى، والاشتغال المعرفى، بل وحتى التفكيك الهادئ للزيف أو الإنشاءات الجاهزة. وفى الكتاب ذاته يقارب الشاعر والصحفى حسين جلعاد نوعًا من التأريخ غير المرسم بإطار ما. لتفضى عبره الكتابة إلي تداخل الذوات؛ ذات الكاتب، وذوات الشخصيات المتحاوَر معها. مع عناصر الجغرافيا والرمز واللغة، فيحضر المكان لا كحيز، بل كذاكرة، وتحضر الشخصيات لا كأسماء، بل كتجارب إنسانية تؤرشف المأزق الوجودى، والثقافى، والسياسى للإنسان العربى المعاصر. ولعل خصوصية حسين جلعاد تكمن بدقة فى تشريح التناقضات، لا إدارتها أو التكيف معها. فهو لا يسعى إلى إنتاج خطاب يقينى، بل إلى مساءلة الأنساق، وكشف هشاشتها، ما يجعل من كتابه سيرة ثقافية/ فكرية أكثر منه مشروعًا توثيقيًا عابرًا، فيما يمضى جلعاد حثيثا فى انخراط نقدي/ معرفى لخلق كتابة موازية يحتاجها مثل هذا النوع من الكتب.حيث يبدو الاستطراد والتداعى جليا لتوسيع الرؤية بشكل أعمق. من مدخل الجانب النظرى والمنهجى ومساءلة: ما الإطار الذى يرتكز عليه أكثر من تحليل للخطاب: سردى قصصى. أجناسى. وتفكيكي... الخ. ولأن تفكيك بنية الأقسام داخل كتاب حسين جلعاد «شرفة آدم» تحتاج إلي وقت وجهد وحيز أكبر، كون ما تشى به من سرديات فرعية، قد تمكننى لاحقا من تحليل نماذج مقارباته وحواراته التى أجراها مثلا بوصفها استدعاءً لوعى الجماعة الثقافية بصورة عامة. شعرت ب«لذة النص» رغم أنني صراحة لم يتح لى الوقت الكافى لفحص مادته كاملة بقدر تتبعى سمات منه وهوامش ومتنون وأسئلة وإجابات تحيل جلها إلي جماليات اللغة والأسلوب فى الصوغ الأدبي والصحفى بكل مهنية: حيث الشاعر يكتب كصحفى، والصحفى كمتأمل، والمتأمل كمن يراوغ الأجناس ليستبين أثر الذات الصحفية، الشاعرية، التوثيقية فى تشكيل المعنى المضمر فى النص إجمالا. ولعل تواتينى الفرصة قريبا لمواكبة هذا المشروع الذى يبدو، بحق، مختلفًا فى عمقه وزمنه.