عندما كان حفر قناة السويس على وشك الانتهاء، طلب الفنان الفرنسي إدوارد ريو من فرديناند ديلسبس رئيس شركة القناة الحضور إلى مصر، لرسم لوحات فنية، تصوِّر أعمال الحفر والافتتاح المزمع، دون أجر. ووفقا للسجلات فقد حصل فقط على ألف فرانك، كتكاليف للسفر والإقامة، ولكن عند وصوله إلى مصر كلفه الخديوي إسماعيل برسم لوحات لتوضع ضمن كتاب تذكاري، يُوَّزع على ضيوف حفل الافتتاح. كما نُشِرت لوحاته مصاحبة للتغطيات الصحفية الواسعة في فرنسا، مما منحه اعترافا دوليا.. قصة الفنون واللوحات التي ارتبطت بهذا الصرح العملاق، نلقى عليها الضوء بمناسبة الذكري ال50 لإعادة افتتاحها أمام الملاحة العالمية فى 5 يونيو 1975. ◄ كبار فناني العالم اهتموا بجمالها وفخامة الاحتفال ◄ الجزار انحاز للعمال والسجينى جسد ملحمة العبور ◄ رسامو القناة حصلوا على الاعتراف الدولي من مصر ◄ رسوم إدوارد ريو في صحف فرنسا وكتاب الخديو لم يكن ريو وحده من رسم القناة فى مراحل الحفر والافتتاح، فقد جذبت العشرات ممن تسابقوا لتصوير الحدث الكبير ولعقود لاحقة. وتعددت رؤاهم الجمالية والاستشرافية للمجرى المائى والبحيرات، والسفن، وما يحيط بها من طبيعة ومدن وقرى وبشر وعمال ومسافرين، ويبدو الأمر الآن، وكأنها كانت منذورة منذ البداية، لتصبح موضوعا إبداعيا وثقافيا، بنفس قدر أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية. ■ افتتاح قناة السويس ◄ مئات اللوحات أول ما حظيت به القناة هو اللوحات الفنية لعدد من رسامي العالم، أبرزهم النمساوي ألبرت زيجلر، الذى رسمها خلال الحفر عام 1864. كذلك رسمها الفنانان فرير وبارى وهما مع ريو كانت القناة تميمة حظهم التى منحتهم الشهرة والاعتراف الدولي، بظهور أعمالهم أمام أباطرة العالم وملوكه، جنبا إلى جنب مع فنانين كبار، تمت دعوتهم مثل المستشرق الشهير جان ليوم جيروم. «افتتاح قناة السويس.. رحلة الملوك» هو عنوان كتاب لجوستاف نيكول وماريوس فونتان مع أربعين لوحة لإدوارد ريو، ويصف الاحتفال، وحضور الجماهير على ضفتى القناة من مصريين، وقبائل عربية، بالجمال والخيول، وخيام الإقامة، ويبرز الجهد الاستثنائى لعمال الحفر، والابتكارات والآلات التى استخدمت لتذليل العقبات. وقد دعا الخديو ستمائة شخصية من أنحاء العالم، تضمنت الملوك والأمراء، وكبار رجال الصناعة والتجارة، بالإضافة للكتاب والفنانين والعلماء. واستخدم لأجلهم خمسمائة طباخ، وألف خادم من إيطاليا، ظهر بعضهم ضمن لوحات ريو. وبلغ مجموع الأجانب ستة آلاف، مما جعل تكاليف الحفلات والولائم تقارب المليون ونصف المليون جنيه، طوال خمسة أيام. ووصفت أوجينى استقبالها بأنه باهر، ولم يسبق أن شاهدت مثيلا له فى حياتها. كما تظهر لوحات ريو مشاركة رجال الدين الإسلامى والمسيحى في الاحتفال. وقد صدر الكتاب بترجمة عباس أبو غزالة عن المركز القومى للترجمة عام 2010. كذلك رسم الفنان إيفرموند دي بيرارت عشرات اللوحات، اكتشف منها مؤخرا العديد من الرسوم المجهولة، وهو رسام البحرية والجمعية الجغرافية ومتحف الطبيعة، مما جعل رسومه تتخذ طابعا توثيقيا مع ملمح جمالى. كما حضر الفنان إيفان إيفاسوفيسكي ضمن الوفد الروسى حفل الافتتاح، وقام برسمه مع عشرات اللوحات عن مصر. ولم يتوقف رسم القناة طوال العقود اللاحقة، فالإنجليزى توماس لافونتين صور العمل في القناة، والذى جرى قبل مولده بعقود مركزا على دى لسبس وهو يمسك قلما، ويراجع التصميم، ومن خلفه العمال. كذلك توجد لوحات شهيرة للقناة وقعها الفنانون ثيودور فرير، وأودولف كوفلي، وفيليب دى ليون كريمير، ويوستين كوزلوفسكى وإيرميه ديزريه. وسبق الفنان الإيطالي جوليو كارنيللي الجميع برسم لوحة مبكرة عن فكرة شق القناة، صورت أهل البندقية يتفاوضون مع السلطان حولها. وما دمنا نتحدث عن تاريخ الفنون المرتبطة بالقناة فلا يمكن أن نغفل تمثال الفلاحة المصرية الذى صممه الفرنسى أوجسط بارتولدى ليوضع عند مدخل القناة، ولكن تعذر تنفيذه بسبب التكاليف، وحل بدلا منه تمثال دى لسبس للنحات إيمانويل فرميم والذى دشن بعد وفاته، وظل منتصبا عند مدخل القناة عقودا، قبل أن يجرى خلعه عن قاعدته خلال العدوان الثلاثى على مصر، كرمز للاستعمار. أما تمثال بارتولدى فقد جرى إجراء بعض التعديلات عليه، ليصير تمثال الحرية الشهير فى نيويورك والذى أهدته فرنسا للولايات المتحدة، وفق المؤرخ الفنى «بارى مورينو». ■ قناة السويس بريشة النمساوي ألبرت زيجلر ◄ اقرأ أيضًا | زاهي حواس: عمليات حفر قناة السويس تمت بأيادٍ مصرية ◄ لوحات مصرية تأخرت الحركة التشكيلية المصرية الحديثة عن الميلاد حتى بدايات القرن العشرين، ومع ذلك حظيت القناة باهتمام الفنانين المصريين. الفنان محمود سعيد أعاد رسم حفل الافتتاح بعد ثمانية عقود فى لوحة كبيرة، تصور الخديو مع الامبراطورة أوجينى وامبراطور النمسا فرانز جوزيف، ومن خلفهم الملوك والأمراء. أما الفنان عبدالهادى الجزار فرسم عام 1964 حفر القناة، واختار التركيز على العمال تكريما لتضحياتهم. وقد بيع عمل تحضيرى مصغر للوحة الأصلية بمليون و23 ألف دولار فى مزاد لصالة كريستيرز دبى عام 2014. كذلك رسم الفنان حامد عويس لوحته «القائد وتأميم القناة» عام 1957، وركزت على صورة جمال عبدالناصر، وحوله جموع الشعب يبتسمون فرحين، والقناة فى الخلفية. كذلك يرتبط تمثال العبور للنحّات جمال السجينى بالقناة مجسدا ملحمة تحويلها من مانع مائى إلى معبر للنصر. وهو يتصدر أحد ميادين مدينة بنى سويف. ولا يمكننا أن نغفل لوحات فنان بورسعيد الراحل مصطفى العزبى الذى كرس حياته لرسم مدينة طفولته على شاطئ القناة، حيث صور عمال الفحم على البواخر، ومهنا مثل حامل الطعام لعمال الهيئة، ومشاهد للصيادين وصناعة المراكب وذكريات الأحداث الوطنية الكبرى التى ارتبطت بالقناة وبورسعيد. ولم ينقطع الفنانون المعاصرون والشباب عن تناول القناة، سواء على مستوى تاريخها أو واقعها، وما تكتسبه كل يوم من أهمية وتطوير، ومنها لوحة مميزة للفنان الشاب علاء عوض. ◄ فنون بلا حدود لم ترتبط القناة بالإبداعات التشكيلية فقط، ولكن بواحدة من أشهر الأوبرات فى التاريخ، وهى «أوبرا عايدة» للإيطالى جوزيبى فيردى، إذ كلفه بها الخديو إسماعيل، لتعرض ضمن احتفالات افتتاح القناة. ونظرا لتعذر الانتهاء من الديكور واللوازم ونقلها فى الوقت المناسب تأجل عرضها لمدة عامين، وحل محلها «أوبرا «ريجولتو» للموسيقار نفسه، لترتبط هى الأخرى بتاريخ القناة. وعلى صعيد السينما نذكر الفيلم الأمريكى «السويس» من إنتاج عام 1938، إخراج ألان دوان، وبطولة تيرون باور وولوريتا يونج، ويدور فى إطار رومانسى مؤثر حول قصة حفر القناة، وسط علاقات حب. وأدت بعض المبالغات إلى رفع أحفاد دى لسبس دعوى قضائية على الشركة المنتجة بتهمة التشهير. ورغم ذلك حصل الفيلم على عدة جوائز. كذلك اهتم الكتاب والرحالة بالقناة، وتضمنتها مذكرات عديدة، منها ما كتبته اثنتان من وصيفات أوجينى هما الكونتيسة سيجيسموند دى ناديلاك ومارى دى لارمينا وتحكيان عن الرحلة على اليخت الامبراطورى إلى الإسكندرية والقاهرة وشلالات النيل قبيل حضور حفل الافتتاح حيث تأبطت الامبراطورة ذراع الخديو على عكس ما يظهر فى لوحة محمود سعيد، ربما لاعتبارات اجتماعية، إلى جانب امبراطور النمسا وملك بروسيا. وضمن الاحتفال بمائة وخمسين عاما على افتتاح القناة قبل عدة سنوات، أقام معهد العالم العربى فى باريس معرضا وفعاليات، طرح ضمنها المنظور المصرى للقناة على مستوى التأريخ والأدب والفنون. ومنها دراسات «القناة فى عيون المصريين» لعماد أبو غازى، و«السخرة فى حفر القناة» لمى فاروق، و«الحياة فى مدن القناة الكوزموبولوتانية» لإيناس الصيرفى، و«الجذور التاريخية لفكرة تأميم القناة» لمحمد عفيفى و«فتنة السويس من منظور أدبى» لرانيا فتحى، و«السينما والقناة» لسلمى مبارك ووليد الخشاب. وهى تلقى الضوء على ثراء القناة من الناحية الثقافية وكموضوع ملهم للإبداع. ◄ فنون شعبية ومما يحسب للقناة أنها خلقت مجتمعا، فى بورسعيد والإسماعيلية والسويس، ومدن أصغر، كلها حملت الطابع المميز لمدن القناة التى نشأت حديثا من عمال وفدوا من مختلف ربوع مصر، وصبغتهم القناة بطابع ثقافى أبدعوا فى ظله حياة وفنا شعبيا تمثل فى ليالى الضمة، وأغانى ورقصات السمسمية، وأزجال وأشعار البمبوطية والصيادين، والتى تحولت فى المعارك الوطنية إلى وقود للنضال أضاف لتراث مدن القناة مزيدا من الثراء والمعنى. ودخلت على الخط طقوس شعبية احتفالية مثل حرق دمية «اللمبى» ليلة شم النسيم، والذى تطور على شاطئ القناة إلى طقس نضالى احتفالى ندد بالمستعمر، ومزج الرقص والعزف والغناء بالمقاومة، وهو تراث يحتاج إلى مزيد من التوثيق والحفظ وتشجيع إحيائه.