سافر عميد الأدب العربى د. طه حسين للأراضى المقدسة بالمملكة العربية السعودية عام 1955 لأداء فريضة الحج، وكان للرحلة صدى عزيز فى نفسه عندما وجد فى استقباله الأمراء والأعيان والأدباء والإعلاميين، واحتفت به المؤسسات الثقافية والهيئات العلمية كافة بالمملكة العربية السعودية، وكان فى استقباله أيضا فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى الذى كان يعمل وقتها أستاذاً بكلية الشريعة هناك، ورحب بعميد الأدب العربى بقصيدة قال فيها: «هو طه فى خير كل قديم.. وجديد على نبوغ سواء.. يا عميد البيان أنت زعيم.. بالأمانات أريحى الأداء.. لك فى العلم مبدأ طحسنى.. سار فى العالمين مسرى ذكاء». اقرأ أيضًا| وزير السياحة يتوجه في زيارة للمملكة العربية السعودية.. ويشارك في ندوة الحج الكبرى امتلأت نفس د. طه حسين بالسعادة لهذا الاستقبال الحميم، ونبه مرافقه الشيخ أمين الخولى وهما يغادران مدينة «جدة» قاصدين البيت الحرام فى مكةالمكرمة أن يوقف الركب عند «الحديبية»، فلما توقفا ترجّل عميد الأدب العربى من السيارة وقبض من تراب «الحديبية» قبضة فشمّها ثم تمتم ودموعه تنساب على التراب قائلاً: «والله إنى لأشم رائحة النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى هذا التراب الطاهر». وقد رصد كتاب «رحلات الأعلام إلى البلد الحرام» لمؤلفه محمد عبد الشافى القوصى الأثر الناتج عن زيارة العميد طه حسين للأراضى المقدسة، فرصد الكتاب الاستقبال المهيب للعميد بما يشكل عرساً غير مسبوق حدث لأى كاتب آخر من الذين زاروا مكة لأداء فريضة الحج، وأكد الكتاب أن العاهل السعودي، الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود استقبل الدكتور طه حسين بحفاوة فى حضور الأمراء والأعيان والوجهاء والأدباء، وكانت فى استقباله هناك بعثة الأزهر الشريف ومن بين أعضائها الشيخ متولى الشعراوي. ويقول الكتاب إن د. طه حسين سعد بحفاوة الاستقبال الذى لم يكن يتوقعه، وعلى رأسها حفاوة الاستقبال الرسمى والشعبي، وعبر عن ذلك بقوله: اقرأ أيضًا| ساعات ذكية لمراقبة صحة الحجاج.. تقنية تواكب روحانية الفريضة - «معذرة إليك يا صاحب السمو، ومعذرة إلى الذين تفضلوا فاستجابوا لهذه الدعوة من الزملاء والزائرين، معذرة عن هؤلاء المواطنين الذين أخطأوا موضع التكريم، ووجهوه إلى غير من كان ينبغى أن يوجه إليه، فقد أكثروا واشتطوا وأسرفوا على أنفسهم وعلى الناس.. وأقول لهم: دعوا أخاكم هذا الضعيف، وما قدم إليكم من خير قليل، واصنعوا خيراً مما صنع، وأخطر مما صنع، وأريحوه من إطالة الثناء: لأنها تخجله وتشعره بأنه يسمع ما ليس له الحق فيه»، وأؤكد أنهم قالوا فأسرفوا على وعلى أنفسكم، ولكن نيتهم كانت خالصة، وقد قال نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» وهؤلاء قد نووا خيراً، وقالوا خيراً، فليعف صاحب السمو، فهم قد أخطأوا، فوجهوا الثناء إلى غير مذهبه، وقالوا المديح فى غير أهله، وليذكروا أنهم هنا فى هذه البلاد يمثلون وطنهم، وأن يقدروا أن إخلاصهم فى حب هذا الوطن وجهدهم فى خدمته، وفناءهم فى ترقيته والمشاركة فيه مخلصين، إنما هو إخلاص لله قبل كل شيء، فهى أرض الله، فيها أشرق نور الله، ومنها انبعث هذا النور، فهدى أوطاننا جميعاً إلى الحق وسلك بها سبيل الخير». إلى عرفات الله يا خير زائر.. عليك سلام الله كل عام وأنتم بخير، يقف حجاج بيت الله الحرام اليوم «الخميس» على جبل عرفات الطاهر مفعمين بأجواء إيمانية يغمرها الخشوع والسكينة، وتحفهم العناية الإلهية ملبين متضرعين داعين الله عز وجل أن يمن عليهم بالعفو والمغفرة والرحمة والعتق من النار، وغدا يبدأ أول أيام عيد الأضحى المبارك أعاده الله على مصرنا والأمة العربية والإسلامية بالخير والبركة، وقد وثقت سيدة الغناء العربى أم كلثوم بصوتها واحدة من أهم قصائد أمير الشعراء أحمد شوقى عن الحج والوقوف بعرفات، واختار للقصيدة عنوان «إلى عرفات الله»، ولهذه القصيدة قصة تبدأ أحداثها عندما عزم الخديو عباس حلمى الثانى، على أداء فريضة الحج شتاء 1909، وقرر أن يصطحب معه أمير الشعراء أحمد شوقى المقرب إليه، لكن شوقى لم يكن مستعدا لأداء فريضة الحج، ولم يكن يستطع أن يصرح بذلك للخديو، فتظاهر بالموافقة وصحب الموكب إلى صحراء العباسية ثم ترك الموكب قبل أن ينتبه الخديو أو أحد من الحاشية التى بحثت عن شوقى فلم تعثر له على أثر! عندما عاد الخديو من الحج سأل أحمد شوقى عن سر اختفائه، فأجابه قائلاً: «كل شىء إلا ركوب الجمال يا أفندينا»، وكانت إجابته واهية وغير مقبولة، فمهما بلغ شوقى من الترف لن يبلغ ما بلغه الخديو الذى استقلّ ظهور الجمال، ووالدته التى استقلّت ظهور الجمال أيضاً وقطعت مئات الأميال فى الصحراء، ولكى يتجاوزأحمد شوقى الموقف، بعث للخديو عباس بقصيدة «إلى عرفات الله» التى يمدحه فيها ويعتذرعن تخلّفه عن الحج، وذكرالقصة نجله حسين شوقى فى كتابه «أبى شوقى»، مؤكداً أن والده كتب هذه القصيدة معتذرا إلى الخديو، وقال إن الخديو قد خيره بين السفر بسفينة البحر أو مطية البر، لكنه اعتذر عن هربه متعللاً بضعفه وداعياً له بأن يذهب ويعود سالماً. وعندما قررت أم كلثوم غناء القصيدة التى تتألف من 63 بيتاً عام 1951 أسندت للشاعر أحمد رامى مهمة إجراء تعديلات طفيفة فى بعض الأبيات للخروج بالنص من مديح الخديو إلى الشأن العام، فقام رامى بتعديل مطلع القصيدة من «إلى عرفات الله يا ابن محمد» ليصبح «إلى عرفات الله يا خير زائر»، وانتهى لاختيار 25 بيتا فقط من القصيدة قام بتصويرها موسيقيا ولحنيا الموسيقار رياض السنباطى فى لوحة سمعية تصورحالة الشوق لمن يتمنى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأداء فريضة الحج، صورة تهز الوجدان بكلمات من قبيل «إلى عرفات الله يا خير زائرعليك سلام الله فى عرفات.. ويوم تولى وجهة البيت ناضرا وسيم مجال البشر والقسمات». وفى عام 1963 صورت أم كلثوم الأغنية بتوقيع المخرج أحمد بدرخان، وكانت تغنيها كل عام فى حفلاتها التى تتوافق مع أيام الحج، وسبق أن سجلتها ضمن أحداث فيلم «رابعة العدوية»، وكانت هذه القصيدة اللقاء الأخير بين صوت أم كلثوم وأشعار أحمد شوقى بعد أن التقيا فى «الملك بين يديك - وولد الهدى - وفى الأرض شر مقاديره - ونهج البردة - وسلوا قلبى - وسلوا كؤوس الطلا - والنيل»، واتفق النقاد على أغنية «إلى عرفات الله» كأجمل أغنية قيلت فى مناسبة الحج، ومن الروائع التى شدت بها عن الحج رائعة «القلب يعشق» لبيرم التونسى ورياض السنباطى التى يقول مطلعها: «القلب يعشق كل جميل.. وياما شفتى جمال يا عين.. واحد مافيش غيره.. ملا الوجود نوره.. دعانى لبيته لحد باب بيته.. وأما تجلالى بالدمع ناديته»، وطلبت أم كلثوم من السنباطى سرعة تلحينها لأن أحد سفراء السعودية سألها ذات يوم «لماذا لا تقدمين أغنية عن الحج يتغنى بها الحجاج فى كل مكان؟»، ووجدت أم كلثوم ضالتها فى ديوان بيرم التونسى الذى يحلق فى قصيدة «القلب يعشق» بروحانيات مناسك الحج، وشدت بها مطلع 1972، من الجدير بالذكر أن أم كلثوم أدت فريضة الحج 4 مرات، وقالت إنها كانت تقع من كثرة البكاء عندما تتذكر وقوفها أمام الله عز وجل. دموع يوسف إدريس فى المسجد النبوى الشريف يتضمن كتاب «إسلام بلا ضفاف» لتيشخوف العرب الدكتور يوسف إدريس سلسلة مقالات عن الإسلام فى عمومياته، ويستوقفنا فى هذا الكتاب فصل بعنوان «عمرة كاتب» عن العمرة التى أداها بالأراضى المقدسة وبكى خلالها بدموع حارة فى المسجد النبوى الشريف، ومع ذلك لم يسلم الدكتور يوسف إدريس من بعض الكتاب والتيارات المتشددة التى لم تستوعب منه زيارته للأراضى المقدسة، وقد نشر الكاتب الكبير رجاء النقاش مقالا بجريدة «الأهرام» يكشف فيه خلفيات العمرة التى أداها د. يوسف إدريس فيقول: - « كان ذلك فيما أذكر سنة 1984، وكنت قد ذهبت مع عدد من الكتاب والصحفيين المصريين لأداء العمرة، بعد أن شاركنا فى مهرجان الجنادرية الثقافى الذى تقيمه السعودية كل عام، وقد بدأنا رحلتنا إلى العمرة بزيارة المسجد النبوى فى المدينةالمنورة، استعدادا للذهاب إلى مكة والطواف بالكعبة، وفى المسجد النبوي، وفى الجزء المعروف باسم الروضة الشريفة الذى يقع بين المنبر النبوى وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، رأيت الكاتب الكبير يوسف إدريس يقف وحده أمام قبر الرسول وهو يبكي، وكان أحد المشاركين فى رحلة العمرة، وقد أدى يوسف معنا مناسك العمرة بعد ذلك فطاف بالكعبة، وقبل الحجر الأسود، وسعى بين الصفا والمروة، وفى اللحظة التى كان فيها يوسف إدريس يبكى بدموع غزيرة وحقيقية، وجدت أحدهم يقترب منى ويهمس فى أذني «انظر إلى هذه الدموع الكاذبة فى عيون يوسف إدريس.. يوسف يسارى معروف وأهل اليسار لا يؤمنون بالدين ولا شك أن يوسف إدريس له هدف آخر من وراء هذه الدموع.. فهو إنسان ذكى وقادر على التمثيل الجيد من أجل تحقيق أهدافه الخاصة»، فجاء ردى على من قال هذا الكلام عنيفا، وإن حاولت أن ألتزم بضبط النفس احتراما للمكان المقدس الذى نحن فيه، وقلت لهذا الشخص «إننى أثق بدموع يوسف إدريس.. وأثق بأنه صادق كل الصدق.. انظر إليه وهو يقف وحيدا لا يكاد يشعر بالزحام الذى يحيط به.. ولا يلتفت إلى غيره»، وأدرك من كان يحدثنى أننى غاضب ومنفعل ضده بشدة ، فانصرف وبقى طوال رحلة العمرة حريصا على عدم الاقتراب منى أو تبادل الكلام معي، ولم أتحدث مطلقا مع د. يوسف إدريس أو غيره عن هذه القصة التى أرويها اليوم لأول مرة». «أنيس» يشعر فى الحج براحة نفس وصفاء عقل يصف لنا الكاتب الكبير أنيس منصور شعوره فى رحلة الحج إلى بيت الله الحرام فى كتابه «طلع البدر علينا»، بقوله: «حاولت أن أصورعذابى العقلى وحيرتى الدينية، وكيف أننى خرجت منها إلى شاطئ أمين، شاطئ طويل عريض لا أعرف كيف أسبح فيه، لقد هدانى الله إليه، فأصبح عندى راحة نفس، ووضوح رؤية، وصفاء عقل، وانشراح صدر، وسهولة فى التعبير عما فى نفسي، وليس هذا قليلا فالحمد لله». ويضيف أنيس قائلاً: «فجأة كأن كل ما فى نفسى وعقلى قد تعب، أو قد أضىء فجأة ورأيت ما لم أر وسمعت ما لم أسمع، شىء رطب مضىء مريح منعش فى داخلي، عدت أقرأ القرآن، وعدت أقرأ الحديث، وقرأت كتاب «عبقرية محمد « لعباس العقاد، وكتاب «محمد» للدكتور محمد حسين هيكل، وكتاب «محمد» لتوفيق الحكيم، و»على هامش السيرة» للدكتور طه حسين، و»سيرة ابن هشام»، وما كتبه المستشرقون، ووجدت نفسى مأخوذا مسحوبا منجذبا وفهمت ما لم أكن أفهم، واكتشفت أننى أجهل الكثير، واهتديت أن الإسلام أبسط الأديان وأكثرها تجريدا وأعمقها فهماً للإنسان». ويواصل أنيس قائلا: «جاءت فكرة أداء الحج، ووافقت دون تفكير، وفى الطائرة ومع الناس ومع أصوات الملبين أحسست أننى فى مسجد فى السماء، ورددت معهم: «لبيك اللهم لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك لبيك»، أحسست وقتها كأن شيئا من دفء يتسلل إليّ، ثم حرارة ثم كهربة، فارتعاشة وزلزلة، ولم أشعر بصوت المحركات ولا بالوقت، وفجأة نزلت الطائرة فى مطار جدة عند الفجر، ولم أسأل نفسى عن هذا اللبس بالذات، سؤال بلا معنى فهذه الملابس لها معانٍ كثيرة فنحن نتجرد من كل شىء، لنكن أمام الله عراة، مجردين من الملابس والشهوات والمخاوف، نتساوى جميعا، من يجد الثوب ومن لا يجده وفى ذلك طاعة وامتثال». أنيس منصور من كتاب «طلع البدر علينا» يا رايحين للنبى الغالى.. هنيالكم وعقبالى فى أداء مناسك الحج دروس روحية تجرد الإنسان من انتفاخ الذات عندما يتذوق حلاوة الخضوع والخشوع فى حضرة الله، وفى فترة الحج تنتشى النفس بالتواشيح والإنشاد الصوفى المتبتل فى حب الله، ومن بينها رائعة «يارايحين للنبى الغالى.. هنيالكم وعقبالي» لسندريلا الغناء الراقى ليلى مراد، وفى موسم الحج تتسابق الإذاعات والفضائيات فى بث هذه الرائعة قبل أن تشرق على الأمة ليالى عيد الأضحى المبارك، ولهذه الأغنية قصة يرويها الكاتب أحمد الإبيارى نجل السيناريست والشاعر الغنائى الكبير أبو السعود الإبيارى فيقول إنه عثر على السيناريو الذى كتب قصته وحواره والده بخط يده لفيلم «ليلى بنت الأكابر» وفى هامش السيناريو وجد وصفا لمخرج الفيلم أنور وجدى لموقف تودع فيه ليلى مراد زكى رستم عند سفره للحج، وكتب الإبيارى الأغنية بنفس التفاصيل التى طلبها أنور وجدى. لكن كتابات كثيرة ظهرت بعد ذلك تقول إن ليلى مراد طلبت أثناء تصوير الفيلم السفر لأداء مناسك الحج، لأنها كانت تعانى فى هذه الفترة من الاتهامات التى كانت تلاحقها بأنها على علاقة بإسرائيل، لكن إدارة استديو مصر رفضت طلبها على أساس أن توقف التصوير لمدة أسبوعين سوف يسبب خسائر فادحة، فطلبت ليلى مراد من أبو السعود الإبيارى تأليف هذه الأغنية لتودع فيها المسافرين للحج ولحنها رياض السنباطى لتعبرعن شوقها للسفر للحج.. وتقول كلمات الأغنية: «يا رايحين للنبى الغالى.. هنيالكم وعقبالى.. يا ريتنى كنت وياكم.. وأروح للهدى وأزوره وأبوس من شوقى شباكه.. وقلبى يتملى بنوره وأحج وأطوف سبع مرات.. وألبى وأشوف منى وعرفات وأقول ربى كتبهالى.. يا رايحين للنبى الغالي.. أمانة الفاتحة يا مسافر لمكة.. تأدى فرض الله حترجع والإله غافر ذنوبك.. لما نلت رضاه يا ريتنى معاك فى بيت الله.. وأزور وياك حبيب الله.. هنيالك وعقبالى.. يا رايحين للنبى الغالى». قالت ليلى مراد فى حديث صحفى إنها عندما غنت هذه الأغنية امتلأت روحها بمزيد من الشوق لزيارة قبر الرسول «صلى الله عليه وسلم» متمنية أن تحظى بهذه الزيارة مثل كل المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها الذين يبتهلون إلى الله ويكثرون الدعاء لكى يكتب لهم الحجة المباركة وزيارة مكةالمكرمة والطواف حولها والسعى بين الصفا والمروة والوقوف على جبل عرفات. وحدة الكل فى الله بقلم: د. مصطفى محمود الشمس تنحدر إلى المغيب على جبل عرفات. الجبل مزروع بالخيام، حجاج يحطون عليه كالحمام فى ثياب الإحرام البيض، لا تعرف الفقير من الغني، اختفت الجنسيات، الأزياء المميزة واللغات، الكل يلهج بلسان واحد، الكل يتكلم العربية، بعضهم ينطقها مكسرة وبعضهم ينطقها بلكنة أجنبية، لكنك تسمعهم يهتفون «لبيك اللهم لبيك» والذين لا يعرفون العربية يلتفون حول مطوف يرددون وراءه الدعاء حرفاً حرفاً فى خشوع وابتهال. فى البقعة التى كنت أقف فيها أكثر من خمس عشرة جنسية مختلفة فى مكان لا يزيد على أمتار معدودة، يتصافحون، ويهنئ بعضهم بعضا، ولولا أن المطوف أخبرنى بهذه الجنسيات لما عرفتها، فالكل يبدون لعينى وكأنهم عائلة واحدة، وعلى بعد خطوات كان أكثر من ستين هندياً حول مطوف هندى تخضلت لحاهم الطويلة الكثة بالدموع، عرفت أنهم من أفقر طائفة هندية، جاءوا إلى مكة على سفن شراعية وجمال، بعضهم جاوز الثمانين، وبعضهم كف بصره، وبعضهم كان يحمل بعضا، وعلى بعد خطوات كان هناك هندى آخر، قال لى المطوف إنه مهراجا يملك عدة ملايين وكان بذات ملابس الإحرام البيضاء، كان يبكى بذات الخشوع، كان مشلولاً يحمله أتباعه على محفة، كان فقيراً هو الآخر، ومن منا ليس فقيراً إلى الله! ملايين الدولارات لا تعفى أحداً من الشيخوخة والعمى والمرض والموت، السيد وخادمه يمرضان، فمن منا ليس فقيراً إلى الله وهو يولد محمولاً ويذهب إلى قبره محمولاً وبين الميلاد والموت يموت كل يوم بالحياة مرات ومرات، أين الأباطرة والقياصرة وإمبراطورياتهم؟ حفائر تحت الرمال. الظالم والمظلوم كلاهما رقدا معاً، والقاتل والقتيل لقيا معاً نفس المصير. صديقى كثير الشك، سألنى عن سر ثياب الإحرام البيضاء وضرورة لبسها على اللحم وتحريم لبس المخيط، وسئل عن معنى رجم إبليس والطواف حول الكعبة، واعتبرها بقايا وثنية؟ قلت له: أنت لا تكتفى بأن تحب حبيبك حباً عذرياً، إنما تريد أن تعبر عن حبك بالعناق فهل هل أنت وثني؟ بالمثل من يسعى إلى الله بعقله وقلبه، يقول له الله: «هذا لا يكفي.. لابد أن تسعى على قدميك»، والحج والطواف رمز لهذا السعى الذى يكتمل فيه الحب شعوراً وقولاً وفعلاً، وهذا معنى أن تتوحد جسداً وروحاً بأفعالك وكلماتك، ولهذا نسجد فى الصلاة ولا نكتفى بخشوع القلب، الوحدة بين القلب والجسد يتجلى فيها الإيمان بأصدق مما يتجلى فى رجل يكتفى بالتأمل، أما ثياب الإحرام البيضاء فهى رمز الوحدة الكبرى التى تذوب فيها الأجناس ويتساوى فيها الفقير والغني، ونحن نلبسها على اللحم.. كما حدث حينما نزلنا إلى العالم فى لحظة الميلاد وكما سوف يحدث حينما نغادره بالموت.. جئنا ملفوفين فى لفافة بيضاء على اللحم، ونخرج من الدنيا بذات اللفة، وهى رمز للتجرد، لأن لحظة اللقاء بالله تحتاج إلى التجرد. فقال صديقى فى خبث: ورجم إبليس؟ قلت: أنت تضع باقة ورد على نصب تذكارى للجندى المجهول، وتلقى خطبة لتحيته، فهل أنت وثني؟ لماذا تعتبرنى وثنياً إذا رشقت النصب التذكارى للشيطان بحجر ولعنته، كلها رمزيات، وبالمثل السعى بين الصفا والمروة إلى حيث نبعت عين زمزم التى ارتوى منها إسماعيل وأمه هاجر، هى إحياء لذكرى عزيزة ويوم لا يُنسى فى حياة النبى والجد إسماعيل وأمه المصرية هاجر، جميع شعائر ديانتنا ليست طقوساً كهنوتية، وإنما هى نوع من الأفعال التى يتكامل بها الشعور وتسترد بها النفس الموزعة وحدتها، وسيلة لخلق إنسان موحد، ولهذا كان الإسلام هو الدين الوحيد الذى بلا طقوس وبلا كهنوت وبلا كهنة، ألا تراهم أمامك أكثر من مليون يكلمون الله مباشرة بلا واسطة ويركعون على الأرض العراء وكلنا نبكى فى خشوع. سكت صديقى وارتفعت أصوات التلبية من مليون وخمسمائة ألف حنجرة «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك».