ليست أهرامات الجيزة وحدها ما تُفاخر به مصر أمام العالم، فبعيدًا عن شهرة أسماء خوفو وخفرع ومنقرع، تقف فى هدوء عشرات الأهرامات الأخرى، تروى بصمت فصولًا من التاريخ المصرى القديم، لا تقل عظمة أو دهشة.. فى هذا الملف الخاص، تسلط «الأخبار» الضوء على كنوز معمارية وتاريخية تحظى باهتمام الدولة ورعايتها، لكن الكثيرين يجهلون وجودها. 124 هرما تنتشر فى قلب الصحراء وعلى أطراف المدن المصرية، من سقارة ودهشور إلى بني سويف والفيوم وصولا إلى أسوان وفقا لما أكده د. محمد أسماعيل رئيس المجلس الأعلى للآثار، حيث يقف أكثر من 100 هرم، بعضها لم يكتمل، وبعضها قاوم الزمن، لكن جميعها تشهد على عبقرية المصري القديم. هذه الصروح التى ظلت فى الظل، لم تحظَ بالشهرة الكافية رغم ما تحمله من أسرار وتفاصيل هندسية وروحانية مذهلة. ويؤكد الخبراء أن إعادة اكتشافها وتقديمها للعالم يتطلب تطويرًا للبنية التحتية، واهتمامًا إعلاميًا وسياحيًّا يعيد لها مكانتها، ويكشف وجهًا آخر من وجوه العظمة المصرية.. لذا ندعو القارئ لرحلة مختلفة، نلقى فيها الضوء على جواهر تنتشر فى عدة محافظات، ونكشف كيف يمكن لهذه المعالم أن تفتح أبوابًا جديدة للسياحة والمعرفة والتقدير الحضاري. ◄ وزير السياحة والآثار: لا توجد أهرامات منسية.. ونخطط استغلالها سياحيًّا أكد شريف فتحي، وزير السياحة والآثار، أن مصر تمتلك أهرامات تاريخية لا تقتصر على محافظة الجيزة فقط، بل موجودة فى العديد من المحافظات على مستوى الجمهورية، وأضاف أن الوزارة تعمل جاهدة على إعادة ترميم هذه الأهرامات والحفاظ عليها، من خلال التنسيق مع المجلس الأعلى للآثار. وشدد على أن جميع الأهرامات والمناطق الأثرية تحت بصر وبصيرة الحكومة بشكل عام ووزارة السياحة والآثار بشكل خاص، لاسيما وأن جميع تلك المناطق يوجد بها مفتشون من المجلس الأعلى للآثار، مؤكدا ان مصر لا يوجد بها اهرامات منسية أو مقاصد أثرية منسية. ■ شريف فتحي وأوضح شريف فتحي في تصريحات ل«الأخبار» أن الحكومة تسعى إلى تعزيز الجهود المبذولة لتطوير هذه المواقع الأثرية بما يضمن الحفاظ على تراثها الثقافى والحضاري، وزيادة جذب السياح من جميع أنحاء العالم، لهذا تم وضع مخطط لترميم وصيانة الأهرامات، بما يساهم فى الحفاظ على مكانة مصر كوجهة سياحية عالمية، وقامت الوزارة بتخصيص ميزانيات سنوية لتطوير تلك المناطق، خاصة وأن بعض هذه الاهرامات جاهزة لاستقبال الوافدين من الاسواق المختلفة، بعد تطوير البنية التحتية فى تلك المناطق خاصة الطرق. وأشار الوزير إلى أن هناك تنسيقا بشكل مستمر مع القطاع الخاص متمثلا فى الغرف السياحية والاتحاد المصري، ومناقشات لادراج تلك الأهرامات ضمن برامجها السياحية والترويج لها فى الأسواق المختلفة، بالاضافة إلى وجود مناقشات مع بعض المستثمرين لإقامة المشاريع المختلفة في تلك المناطق الأثرية. وأشار إلى أن الحملات التسويقية التى تنظمها هيئة تنشيط السياحة تتضمن بالفعل بعض الأهرامات الجاهزة لاستقبال الوافدين من الأسواق الآسيوية والأمريكية المهتمة بزيارة تلك المواقع والمبانى والمقاصد التى تتمتع بها مصر. ◄ اقرأ أيضًا | أصل الحكاية| الغرفة الممنوعة تحت الهرم الأكبر.. أسرار خفية وعالم مجهول! ◄ الهرم الأحمر.. الأول في تاريخ البشرية فى صمت الصحراء جنوب مدينة الجيزة، وتحديدًا فى منطقة دهشور الأثرية، ينتصب شامخًا هرم فريد من نوعه، قد لا يحظى بشهرة «خوفو» أو «خفرع»، لكن أحجاره تحمل سرًّا من أسرار تطور العمارة المصرية القديمة.. إنه الهرم الأحمر، أول هرم كامل الشكل فى تاريخ مصر القديمة، وربما فى تاريخ البشرية. د. بسام الشماع، الباحث في علم المصريات أكد أن الهرم الأحمر هو الأعلى بين أهرامات دهشور، ويطلق عليه اسم الأحمر وذلك نظرًا إلى ميل أحجاره للون الأحمر «أحجار من المحاجر المحلية»، وكان مكسوًّا بطبقة من الحجر الجيري الأبيض من محاجر طرة، جنوبالقاهرة الحديثة، والذى أزيل فى العصور الوسطى لإعادة استخدامه فى البناء. ويعد الهرم الأحمر ثالث أكبر هرم مصرى بعد أهرامات خوفو وخفرع في الجيزة. ويضيف الشماع، أن الهرم الأحمر من إنجازات الملك سنفرو، مؤسس الأسرة الرابعة، والذى يُلقب ب أبو الأهرامات، نظرًا لأنه بنى أكثر من هرم خلال فترة حكمه ويُعتقد أن الهرم الأحمر كان المحاولة الثالثة له بعد هرم ميدوم والهرم المنحني، ليصل أخيرًا إلى التصميم الهرمى الكامل الذى أرسى الأساس لهرم خوفو العظيم. وأوضح الباحث فى علم المصريات أن الهرم الأحمر بنى بزاوية ميل تبلغ 43 درجة، وهو ما جعله أكثر استقرارًا من سابقيه، يبلغ ارتفاعه حوالى 104 أمتار، ويعد ثالث أطول هرم فى مصر بعد هرمى خوفو وخفرع، مؤكدا أن الهرم الأحمر تم بناؤه عكس بعض الأهرامات، فيُمكن للزائر دخول الهرم من المدخل الموجود على الجانب الشمالى والذى يؤدى إلى ممر ارتفاعه متر وعرضه متر، ثم ينحدر إلى رواق آخر إلى غرفة ذات سقف مقبي. وعلى غرار درج مقلوب، ثم ممر آخر يؤدى إلى غرفة ثانية تقع في منتصف الهرم مباشرة فى الطرف الغربى لتلك الغرفة. وإلى الجنوب منها، يوجد ممر إلى غرفة ثالثة يعتقد أنها كانت حجرة دفن الهرم الثلاثى، ورغم أن المومياء الأصلية لم تُكتشف بداخله، فإن التصميم الداخلى للحجرات يدل على مهارة معمارية مذهلة، وقدرة على التعامل مع ضغوط البناء تحت الأرض. وأشار الدكتور بسام الشماع، أن الهرم الأحمر يقع فى منطقة دهشور، وهو جزء من جبانة منف المدرجة ضمن قائمة التراث العالمى لليونسكو، خاصة وأن المنطقة تضم الهرم المنحنى وعددًا من أهرامات ملوك الأسرة الثانية عشرة، لكن الهرم الأحمر يبقى مميزًا كأول نموذج مكتمل للعمارة الهرمية، ما يجعله نقطة تحول رئيسية فى التاريخ المعماري. وقال إن الهرم الأحمر يعد من الأماكن الأثرية الأقل ازدحامًا مقارنة بأهرامات الجيزة، مما يمنح الزائر تجربة هادئة ومليئة بالتأمل فى عبقرية القدماء، مؤكدا أن الدخول متاح حاليًا بعد أعمال ترميم وتأمين، ليصبح وجهة مفضلة لعشاق الآثار والتاريخ الحقيقيين. ◄ زوسر في سقارة.. أول بناء حجري في التاريخ تحت شمس الجيزة الحارقة، وفى عمق صحرائها الصامتة، يعلو هرم سقارة المدرج كشاهد خالد على عبقرية المصرى القديم، الذى غيّر مسار العمارة حين انتقل من البناء بالطين إلى الحجر، ليبدأ مرحلة جديدة من التنظيم الفنى والمعماري، هذا الهرم، المعروف أيضًا باسم هرم زوسر، يُعد أقدم بناء حجرى متكامل فى التاريخ، ويعود تاريخه إلى أكثر من 4700 عام، تحديدًا إلى الأسرة الثالثة فى عهد الملك زوسر. إنه أكثر حظا من أهرامات أخرى يضمها هذا الملف، لأنه معروف للكثيرين بحكم وجوده فى مقررات التاريخ، غير أنه يظل أقل شهرة من أهرامات الجيزة الثلاثة. الهندسة المعمارية للموقع لا تقتصر على الهرم فحسب، بل تمتد إلى مجمع جنائزى ضخم يضمه، يشمل ساحات فسيحة، وهياكل طقسية، ومصليات، وأسوارًا شاهقة، تعكس مستوى رفيعًا من التخطيط والفكر، وقد صممه المعمارى الشهير إيمحتب، الذى بنى الهرم من ست مصاطب متدرجة بارتفاع يقترب من 60 مترًا، مما جعله يمثل قفزة نوعية فى عمارة المقابر مقارنة بالمصاطب المنفردة التى سبقت ظهوره. ويرى د. محمد إسماعيل، أمين عام المجلس الأعلى للآثار، أن هرم زوسر لا يُعد مجرد معلم أثري، بل هو صفحة أولى من كتاب الفن المعمارى المنظم، ودليل على ريادة المصريين فى البناء الحجري، ويؤكد أن الهرم شهد عملية ترميم ضخمة استمرت نحو 14 عامًا، بتكلفة تجاوزت 100 مليون جنيه مصري، لحمايته من عوامل الزمن والتآكل البيئي. تعتبر سقارة إحدى ركائز السياحة الثقافية، فالموقع يستقطب آلاف الزوار سنويًّا من مختلف أنحاء العالم، ويُعد من أهم المزارات الأثرية إلى جانب أهرامات الجيزة ومعبد الكرنك، وقد تم إدراجه ضمن قائمة التراث العالمى لليونسكو تقديرًا لقيمته التاريخية والمعمارية، وتشهد المنطقة مؤخرًا اهتمامًا حكوميًّا متزايدًا لتطوير البنية التحتية وتسهيل الوصول، ضمن خطة شاملة لدعم السياحة وتعزيز موقع مصر على الخريطة السياحية العالمية. والاكتشافات الأثرية لا تتوقف فى المنطقة، فقد عُثر فى محيط الهرم على تماثيل قطط صغيرة وكتابات نذرية، وضعها المصريون القدماء كقرابين، إيمانًا بقدرة القطط الروحية على حماية المقابر من اللصوص والأرواح الشريرة، كما تم مؤخرًا الكشف عن مقبرة كاهن ملكى محفوظة بشكل مدهش، ما زالت جدارياتها تحتفظ بألوانها الزاهية، وقد وُصفت بأنها من أجمل الاكتشافات فى سقارة خلال العقود الأخيرة». ◄ خنجر أونج.. المعمار الغامض الذي يتحدى الزمن في قلب هضبة سقارة، وعلى بُعد أمتار من هرم زوسر، ينتصب هرم خنجر شامخًا، حارسًا لأسرار تاريخية تعود لأكثر من 4300 عام .. وعلى الرغم من أنه لا يتمتع بشهرة أهرامات الجيزة، إلا أن هذا الهرم الصغير يحمل فى طياته دلالاتٍ مهمة عن تطور الفكر الدينى والمعمارى فى عصر الدولة القديمة، وتحديدًا خلال الأسرة الخامسة. المؤرخون أكدوا أن الهرم يُنسب إلى الملك خنجر المعروف بأسم أونج إيس، أحد ملوك الأسرة الخامسة، والذى لا تزال سيرته محاطة بالغموض، خاصة وأنه لم تُكتشف معلومات كثيرة عن فترة حكمه وهو ما يؤكد أن خنجر حكم لفترة قصيرة نسبيًا، ومع ذلك، أمر ببناء هذا الهرم كمدفن ملكى له، ليخلّد اسمه فى التاريخ، ولذلك بناه بالقرب من من سقارة، وارتفاعه وصل الى 37 متراً، إلا أن عوامل التعرية عبر العصور أثرت على ارتفعه ليصل الى 15 متراً فقط. الدكتور مصطفى وزيرى الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار السابق أكد أن هرم خنجر يُعد مهمًا من الناحية الأثرية، رغم صغر حجمه مقارنة بأهرامات أخرى، حيث يحتوى على نصوص الأهرام، وهى نقوش دينية مقدسة كُتبت على جدران حجرة الدفن، وتهدف إلى مساعدة الملك المتوفى فى رحلته إلى الحياة الأخرى، وقد تم اكتشاف هذه النصوص فى أوائل القرن العشرين، مما جعله أحد أوائل الأهرامات التي تم فيها العثور على مثل هذه النقوش. وأشار الدكتور مصطفى وزيرى إلى أن هرم خنجر ليس من الأهرامات الشهيرة، إلا أنه يحمل قيمة كبيرة لعلماء الآثار، فهو يمثل مرحلة انتقالية مهمة فى تطور النصوص الجنائزية التى شكّلت جزءًا من العقيدة الفرعونية، ولذلك خضع الهرم لدراسات ترميم من قبِل فرق متخصصة، لأنه يعانى من التدهور بسبب عوامل الزمن والعوامل البيئية، مشيراً الى دعم بنيته والحفاظ على نقوشه النادرة يساهم فى فتحه أمام الزوار ضمن خطة تطوير منطقة سقارة. ◄ «الأسود».. قبلة لعشاق الغموض.. بناه أمنمحات الثالث ويتميز بممراته المُعقدة فى قلب الصحراء الغربية، حيث يلتقى سكون الطبيعة بالغموض العميق، يقف الهرم الأسود شاهدًا على مرحلة تاريخية مثيرة فى مصر القديمة. هذا الهرم الذى يقع على بُعد حوالى 40 كيلومترًا جنوبالقاهرة، يُعتبر من المعالم النادرة التى تحتفظ بعبق الأسطورة رغم تأثرها بالعوامل الزمنية. ورغم أنه لم يُكمل فى شكله النهائي، إلا أن الغموض الذى يحيط به جعله محط أنظار عشاق الغموض والتاريخ المصري. بُنى الهرم الأسود فى عهد الملك أمنمحات الثالث من الأسرة الثانية عشرة فى الدولة الوسطى حوالى عام 1850 ق.م، وكان من المقرر أن يكون مقبرة ملكية عظيمة. لكن، بفضل اللون الداكن لحجارته، التى تعرضت لعوامل التعرية والوقت، أُطلق عليه اسم «الهرم الأسود». كان من المُفترض أن يصل ارتفاعه إلى 75 مترًا، إلا أن ارتفاعه الحالى لا يتجاوز 20 مترًا فقط بسبب انهيار الأساسات بسبب التحديات البيئية. د. سامي زغلول، أستاذ الآثار المصرية بجامعة عين شمس، يوضح: أن بناء الهرم الأسود كان تجربة معمارية جريئة، حيث تم استخدام الطوب اللبن بدلًا من الحجارة الكلسية الصلبة، ومع مرور الزمن، بدأت الأساسات بالانهيار بسبب التربة غير المناسبة وارتفاع المياه الجوفية، مما تسبب فى تشقق جدران الهرم وتصدع قلبه، هذه العوامل البيئية جعلت الملك أمنمحات يتخلى عن المشروع ويُحول خطته لبناء هرم جديد فى منطقة هوارة. رغم تآكل بنيته، يظل الهرم الأسود محط اهتمام الباحثين والمغامرين على حد سواء، يمتاز الهرم بتصميم داخلى مُعقد من الممرات والغرف الجنائزية التى كانت تهدف إلى تمهيد الطريق للملك فى الحياة الآخرة، ما يُظهر التقدم فى الفكرة الهندسية رغم فشل التنفيذ، ويُعد الهرم جزءًا من الجولات السياحية فى منطقة دهشور، ويجذب العديد من الزوار الذين ينجذبون إلى جماله الغريب وقصته المُميزة. أثناء إحدى الجولات الأثرية، علق أحد الزوار الأجانب قائلاً: «رغم أنه غير مكتمل، إلا أن الهرم الأسود يحمل طاقة مختلفة، كأنك ترى وجهًا آخر للحضارة المصرية القديمة، الوجه الذى يُظهر التحدى والتجريب». هذه الكلمات تلخص الشعور الفريد الذى يشعر به الزوار، ويُبرز الهرم الأسود كرمز للطموح الهندسى الذى صمد رغم التحديات. ◄ سيبيسكاف.. مصطبة الفرعون| خروج نادر على التقاليد! بين منطقتى سقارة والجيزة، وتحديدًا فى الجزء الجنوبى من مجمع أهرامات الجيزة، يظهر معلم أثرى بشكل مختلف لا يشبه بقية الأهرامات الملكية لا فى الشكل ولا فى الفلسفة المعمارية.. هرم سيبيسكاف، أو كما يُطلق عليه البعض «المصطبة الملكية الغامضة»، والذى يُعد استثناءً فى تاريخ بناء الأهرامات الملكية فى مصر القديمة. ويوضح د. بسام الشماع، الباحث فى علم المصريات: أن الملك سيبيسكاف هو آخر ملوك الأسرة الرابعة، وتولى الحكم لفترة قصيرة بعد الملك منقرع، وعلى عكس من سبقوه من ملوك الأسرة الرابعة الذين شيدوا أهراماتٍ ضخمة كمقابر ملكية، اختار سيبيسكاف نهجًا مختلفًا تمامًا، فقام ببناء مصطبة ضخمة مستطيلة الشكل بدلاً من هرم. وأضاف: أن هرم سيبيسكاف أطُلق عليه مصطبة الفرعون أو مصطبة سيبيسكاف، لأن تشييده كان من كتل ضخمة من الحجر، ويبلغ طوله حوالى 100 متر، وارتفاعه نحو 18 مترًا.. ورغم أن البناء يُصنف أحيانًا ضمن «الأهرامات»، إلا أنه فى الحقيقة لا يمتلك الشكل الهرمى المُتعارف عليه، مما جعله محط جدل ودراسة من قبِل علماء المصريات. وقال: إن الملك سيبيسكاف قام ببناء غير تقليدى بسبب أن فترة حكمه كانت قصيرة، ولم يكن هناك وقت كافٍ لبناء هرم تقليدي، وأرجح بعض المؤرخين أن الملك اختار بناء الهرم بشكل غير تقليدى عمداً بسبب رغبته فى العودة لتصميمات المقابر القديمة مثل: المصاطب، كتعبير دينى أو سياسي، أو ربما كانت أسباب اقتصادية أو سياسية حالت دون بناء هرم ضخم كما فعل من سبقوه. وأشار الشماع، إلى أن الملك سيبيسكاف لم يحظِ بشهرة كبيرة مثل باقى الملوك، إلا أن هرمه يمثل حلقة انتقالية مهمة بين الأسرتين الرابعة والخامسة فهو يجمع بين الرمزية الملكية، والبساطة المعمارية، مما يعكس حالة من التغير فى الفكر الدينى والسياسى فى ذلك الزمن، وقد عُثر فى محيط المصطبة على مقابر ومصنوعات جنائزية تعود للعصر نفسه، مما يؤكد أن المكان كان مستخدمًا كموقع دفن ملكى رسمي، مؤكداً أن زيارة الهرم بشكله غير التقليدى يستطيع تحقيق حالة من الانجذاب لجميع محبى الآثار والسياحة الثقافية من جميع الأسواق السياحية. ◄ تاريخ أبو صير المذهل.. كنوز الأسرة الخامسة فى قلب الصحراء على بعد 30 دقيقة عن المتحف المصرى الكبير، وفى قلب الصحراء بين منطقتى سقارة ودهشور، تقع منطقة أبو صير الأثرية، حيث تقف مجموعة من الأهرامات، كأنها حُفرت فى الزمن ونُسيت من الخرائط السياحية، ورغم أنها تضم مجموعة من أهرامات ملوك الأسرة الخامسة، إلا أن القليل فقط يعرف عنها، لتظل واحدة من أبرز الكنوز الأثرية «المنسية»، رغم أنها تحمل بين أحجارها تاريخًا مذهلًا لحقبة مهمة من عمر الحضارة المصرية القديمة. د. أحمد عامر، الخبير الأثرى والمتخصص فى علم المصريات، أكد أن أهرامات أبو صير تمثل المرحلة الانتقالية بين الفخامة المعمارية فى الجيزة والفكر الدينى المتطور فى عصر الدولة الوسطى، مؤكداً أن الإهمال السياحى والإعلامى أضر كثيرًا بتلك المنطقة بشكل عام، على الرغم من محاولة المجلس الأعلى للآثار ضمها إلى مسارات سياحية جديدة تحت عنوان الأهرامات المنسية، تمهيدًا لتطوير الموقع بشكل شامل وفتحه بشكل أوسع أمام الزوار. وأوضح د. عامر: أن أهرامات أبو صير تمتلك كل المقومات لتصبح وجهة سياحية متكاملة، لكنها تحتاج الى تطوير البنية التحتية من خلال إنشاء طرق مُمهدة، ومراكز للزوار، ومرافق أساسية، وإعداد محتوى مرئى وتفاعلى ليعرف الزائر بتاريخ الملوك والمعابد والنقوش، بالإضافة الى إدراجها ضمن حملات الترويج السياحي، خاصة المُوجهة للأجانب المهتمين بالسياحة الثقافية، كما أنها تحتاج الى تنظيم فعاليات أثرية ومؤتمرات علمية داخل المنطقة، لتعزيز حضوره الأكاديمى والإعلامي. وأشار إلى أن منطقة أهرامات أبو صير كانت المقبرة الملكية الرئيسية خلال حكم عددٍ من ملوك الأسرة الخامسة، الذين سعوا لتخليد أنفسهم بأسلوب جديد فى فن العمارة الجنائزية، وهم: الملك ساحورع أول من بنى هرمه فى أبو صير، ومعبده الجنائزى يُعد نموذجًا متكاملًا يعكس تطور الفكر الديني، أما الملك نفر إر كارع كاكاى بنى هرمًا لم يكتمل بالكامل، لكنه يبرز عناصر هندسية جديدة، وأخيراً الملك نى أوسر رع والذى شيّد مجمعًا جنائزيًا يحتوى على نقوش دقيقة وأعمدة فريدة، بعض منها نُقل إلى متحف برلين. وأضاف د. أحمد عامر: أن أهرامات أبو صير لا تضاهى أهرامات الجيزة فى الحجم، لكنها تعكس تحولًا جوهريًا فى العقيدة الدينية والبنية المعمارية، مؤكداً أن الأثريين عثروا على برديات فى تلك المنطقة التى تمثل أقدم الوثائق الإدارية المكتوبة فى مصر، لتوثيق أنشطة العمال وإدارة المجمعات الجنائزية، وتُعد مصدرًا بالغ الأهمية لفهم الحياة اليومية والتنظيم الإدارى فى مصر الفرعونية. ◄ أوناس .. شاهد على تحول فكرتى الموت والبعث| جدرانه مكتبة سماوية.. تضم أقدم نصوص دينية مكتوبة فى عمق منطقة سقارة الأثرية، بعيدًا عن شهرة أهرامات الجيزة وضجيج زوارها، يقف هرم أوناس شامخًا رغم صغر حجمه، ورغم تواضعه مقارنةً بعمالقة الجيزة، إلا أن ما يخفيه فى داخله يفوق كل التوقعات؛ فهو الهرم الذى غيّر مفهوم الأثريين عن الموت والبعث فى مصر القديمة. عالم الآثار الكبير د. زاهى حواس، أكد أن الملك أوناس هو آخر ملوك الأسرة الخامسة، وكان عصره بمثابة نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة فى الفكر الدينى والجنائزى للمصريين القدماء، فبدلًا من التركيز فقط على البنية المعمارية، أضاف أوناس بعدًا روحانيًا ونصيًا داخل الهرم. وأشار عالم الآثار إلى أن الإنجاز الحقيقى فى هرم أوناس ليس شكله الخارجي، بل ما كُتب على جدرانه الداخلية، فقد احتوى الهرم على ما يُعرف ب «نصوص الأهرام»، وهى أقدم نصوص دينية مكتوبة عُثر عليها فى مصر القديمة، وهى منقوشة بالكتابة الهيروغليفية، تمثل أدعية وتعاويذ تهدف إلى حماية الملك فى العالم الآخر، ومساعدته على الصعود إلى السماء والانضمام إلى الآلهة. وأوضح زاهى حواس: أن هرم أوناس هو بداية ما يمكن تسميته بالكتاب المقدس عند المصريين القدماء خاصة وأن نصوصه فتحت أبوابًا لفهم عقيدتهم فى البعث والحياة الأبدية، وتم بناؤه من الحجر الجيري، ويبلغ ارتفاعه الأصلى حوالى 43 مترًا، لكنه تهدم جزئيًا مع الزمن ولم يبقَ منه سوى القاعدة والهيكل الداخلى ومع ذلك، لا تزال غرف الدفن والممرات فى حالة جيدة. وقال عالم الآثار: إن الدخول إلى الهرم يُشبه الدخول إلى «مكتبة سماوية»، لأن النقوش تغطى الجدران بسيناريوهات للعبور من الموت إلى الخلود، ويظهر فيها للمرة الأولى وصف صريح للحياة بعد الموت فى العقيدة المصرية، ويقع الهرم ضمن جبانة سقارة، بالقرب من هرم زوسر الشهير. ◄ سنفرو المائل.. عبقرية قدماء المصريين تتجلى في دهشور يقف هرم سنفرو المائل شامخًا على أرض دهشور ، شاهدًا على عبقرية الهندسة المعمارية فى مصر القديمة، ومحطة هامة فى رحلة تطور بناء الأهرامات، بنى فى عهد الملك سنفرو، ويُعتبر أحد أبرز المعالم التى سبقت بناء الأهرمات الثلاثة فى الجيزة. د. محمد عبد السلام، أستاذ الآثار المصرية بجامعة القاهرة، أكد أن هرم سنفرو المائل يعتبر نقطة التحول الحقيقية فى فن العمارة الجنائزية بمصر القديمة، خاصة وأن المصرى القديم لم يصل لبناء الهرم الأكبر مرة واحدة، بل كانت هناك مراحل من التجريب والتعلم. والهرم المائل دليل حى على مرونة الفكر المعمارى فى ذلك العصر. وأضاف د. عبد السلام أن التغيير فى زاوية الميل لم يكن فشلًا، بل خطوة ضرورية لتأمين استقرار البناء، وهو ما ساعد فى بناء أهرامات أكثر تطورًا بعد ذلك، مشيرا أن الهرم المائل، الذى يُعرف أيضًا ب»الهرم المنحني»، يتميز بشكل غير معتاد، حيث تبدأ جوانبه بزاوية ميل تبلغ حوالى 54 درجة، ثم تتغير الزاوية إلى نحو 43 درجة فى الجزء العلوى هذا التغيير المفاجئ فى التصميم منح الهرم شكله الفريد، وأثار جدلًا واسعًا بين علماء الآثار والمؤرخين حول سبب هذا التحول الغامض. ويشير إلى أن ارتفاع الهرم حوالى 101 متر، وكان الهدف من بنائه أن يكون أول هرم كامل الزوايا، بعد محاولات سابقة غير مكتملة، مثل الهرم المدرج فى سقارة ويُعتقد أن التغيير فى زاوية الميل حدث نتيجة لخطأ فى التقدير المعماري، أو بسبب مخاوف من انهيار محتمل بسبب وزن الحجارة، ما دفع البنّائين إلى تعديل خطتهم أثناء عملية البناء.. وأوضح أن هرم سنفرو المائل هو المفتاح لفهم كيفية تطور تقنيات بناء الأهرامات، لقد كان ميدانًا للتجريب، ومن خلاله وصل المصريون القدماء إلى تصميم الهرم الكامل لاحقًا فى هرم الجيزة، مشيرا الى أنه رغم مرور أكثر من أربعة آلاف عام، ما زال الهرم المائل يحتفظ بجزء كبير من كسوته الخارجية المصنوعة من الحجر الجيرى الأبيض، وهو أمر نادر بين الأهرامات المصرية، مما يضيف إلى قيمته التاريخية والمعمارية. وأكد أن الموقع الأثرى شهد اهتماما كبيرا من وزارة السياحة والآثار ليتم فتحه أمام الجمهور، بعد الانتهاء من أعمال الترميم والتأمين وبهذا تستقبل المنطقة الزوار من مختلف أنحاء العالم، حيث يُتاح لهم دخول الهرم واستكشاف ممراته الداخلية، فى تجربة تمزج بين الغموض والإعجاب بقدرة المصريين القدماء على تحقيق إنجازات هندسية تسبق عصرها بقرون.