ما أقوله ينبع من مهنتى وطريقة تفكيرى كمؤرخ، مهموم بماضى وحاضر المنطقة. راج هذا المصطلح فى الآونة الأخيرة على محركات البحث على الشبكة العنكبوتية، وكان المقصود به تسجيل لمكالمة هاتفية جرت بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الليبى معمر القذافي. وعندما سألنى البعض عن الحقيقة التاريخية لهذه المحادثة «التسريب»، كان عليَّ العودة إلى هذه المحادثة لتقصى الحقائق التاريخية حول هذا الأمر. مع سماعى للمحادثة «التسريب» تأكد لى صحة التسجيل، وأنه ليس من نتاج الذكاء الصناعي، كما نشاهد ونسمع الآن للعديد من منتجات هذا المستجد الخطير فى حياتنا. الأمر الآخر تأكد لى أنه من الصعب إطلاق مصطلح «تسريب» على هذه المحادثة؛ إذ إن هذا التسجيل محفوظ ضمن مجموعة الرئيس عبد الناصر، سواء المحفوظة لدى أسرته أو المودعة ضمن القسم الخاص بعبد الناصر فى مكتبة الإسكندرية. وعليه من الصعب وصف تلك المحادثة- على أهميتها- بأنها «تسريب»، لأن هذا المصطلح يطلق على الوثائق أو التسجيلات، التى يتم الكشف عنها سرًا لأول مرة. ومع ذلك فإن هذه المحادثة الهاتفية تشترك مع مصطلح «تسريب» فى شيء واحد فقط ألا وهو: لماذا تُلقى الأضواء على هذه المحادثة الآن؟ ولماذا يُثار حولها كل هذه الضجة بالتحديد فى هذه الأوقات العصيبة التى تمر بها المنطقة؟! عودة مرة أخرى إلى المحادثة الهاتفية بين عبد الناصر والقذافى، هذه المحادثة التى يروى فيها عبد الناصر للقذافى قصة قبوله لمبادرة روجرز، لأنه غير مستعد الآن لاستمرار حرب الاستنزاف، وأيضًا دخول معركة كبرى مع إسرائيل، من أجل استعادة سيناء. فما هى مبادرة روجرز؟ وما هى الأجواء المصاحبة لقبول عبد الناصر هذه المبادرة؟ ترتبط مبادرة روجرز ارتباطًا وثيقًا بحرب الاستنزاف التى أعلنها عبد الناصر على إسرائيل فى أعقاب حرب يونيو 1967. وكان هدف مصر من هذه الحرب، كما هو واضح من اسمها، استنزاف أكبر قدر من قدرات العدو الإسرائيلي، والأمر الآخر والأكثر أهمية هو تحريك قضية استعادة الأراضى المحتلة فى 5 يونيو، حتى لا ينسى العالم هذا الأمر. ونجحت مصر إلى حدٍ كبير فى هذا الشأن فى بدايات حرب الاستنزاف، لكن من يعرف إسرائيل جيدًا، يعرف تفوقها الكبير فى سلاح الجو، وقدراته العالية، والتى تحرص إسرائيل- ومن ورائها أمريكا- على بقاء هذا التفوق الحاسم لصالح إسرائيل. من هنا اجتاح سلاح الجو الإسرائيلى الداخل المصري، وتم ضرب العديد من المنشآت المدنية، وحتى المدارس والمصانع، وسَبَّب ذلك إحراجًا كبيرًا للقيادة المصرية؛ إذ كان الغرض الرئيس لإسرائيل من وراء ذلك ليس فقط تدمير المنشآت، وإنما إثارة الجبهة الداخلية المصرية، وإظهار عبد الناصر شخصيًا فى صورة العاجز عن حماية شعبه. من هنا يأتى تصريح عبد الناصر للقذافى فى المحادثة، عن رفضه لحجة بعض الأنظمة العربية، بأنها قادرة على تقديم طائرات عسكرية له؛ إذ كان رد عبد الناصر: «أنا لست فى حاجة إلى طائرات، أنا فى حاجة إلى طيارين». إذ كان من المعلوم آنذاك أنه من الصعب تدريب وتهيئة الطيارين، بل إن تدريب وإعداد طيار هو أهم من الطائرة نفسها؛ حيث كان الطيار المؤهل جيدًا عملة نادرة، تتفوق فيها إسرائيل أيضًا. وكان لا بُد من إعداد حائط صواريخ كبير مضاد للطائرات، حتى يمكن التعامل مع التفوق الجوى الإسرائيلي. وأدرك عبد الناصر أنه من الصعب اكتمال بناء هذا الحائط مع استمرار حرب الاستنزاف، لأن الطيران الإسرائيلى يقوم بتدمير قواعد الصواريخ المصرية أثناء بنائها. من هنا كان لا بُد لمصر من فترة توقف، حتى تستطيع من ناحية بناء حائط الصواريخ، ومن ناحية أخرى إعطاء المزيد من الفرص الممكنة للحل السلمي، الذى لم يرفضه عبد الناصر، إذا جاء بأكبر قدر ممكن من المطالب المصرية والعربية. من هنا وافقت مصر، وكذلك إسرائيل، فى أغسطس 1970 على المقترح الأمريكى الذى عُرف بمبادرة روجرز «وزير الخارجية» وينص المقترح على وقف إطلاق النار بين الجانبين المصرى والإسرائيلي، والبدء فى مفاوضات من أجل تطبيق القرار السابق للأمم المتحدة، المعروف بالقرار 242، حول انسحاب إسرائيل من «أراضٍ» عربية احتلتها مع 5 يونيو 1967. فى ظل كل هذه الأجواء نتعرف على عتاب القذافي، وبعض الأنظمة العربية، على قبول عبد الناصر لمبادرة روجرز، ووقف حرب الاستنزاف، وإصرار هذه الأنظمة على استمرار الحرب، وإعلان عبد الناصر- كما جاء فى المحادثة- عدم قدرته الآن على الاستمرار فى الحرب. ربما صدم تصريح عبد الناصر، السابق الإشارة إليه، مشاعر القذافى وبعض الأنظمة العربية آنذاك، بل وربما صدم بعض محبى عبد الناصر، بل وبعض كارهيه، وحتى منتقديه، إذ يتناقض ذلك مع الشعار الذى رفعه عبد الناصر، بعد هزيمة يونيو 67، بأن «ما أُخِذ بالقوة، لا يُسترَّد إلا بالقوة»؛ فكيف يتسق هذا مع ذاك؟! فى الحقيقة لم يفهم البعض نفسية وتركيبة عبد الناصر ما قبل يونيو. لم يفهم هؤلاء مدى الانكسار الذى أحسه عبد الناصر آنذاك؛ إذ كيف يكون «زعيم» القومية العربية، وأمل الشعوب العربية، وتتُحتَل سيناء فى عهده؟ فكيف لزعيم تُحتَل أراضيه أن يُعلن أنه سيدافع عن فلسطين؟ أضف إلى ذلك استمرار «الحرب العربية الباردة» حتى بعد هزيمة يونيو 67؛ إذ فشل الزعماء العرب فى قمة الرباط فى أغسطس 1969 فى الوصول إلى قرارات حقيقية وواقعية فى مواجهة إسرائيل، والتصعيد الكبير المعروف إعلاميًا آنذاك بحريق المسجد الأقصى. وذهبت أدراج الرياح لحظة التضامن العربى النادرة التى تجسدت فى مؤتمر القمة فى الخرطوم فى أعقاب هزيمة 67. من ناحية أخرى هناك مشكلة كبرى فى العقلية العربية، ربما مستمرة من عصر البداوة وحتى الآن، وهى فهم العرب لمفهوم «القوة»؛ إذ يفهم العربى «القوة» على أنها القوة العسكرية فحسب! ولم ينتبه العرب- وربما حتى الآن- أن «القوة» تشمل أيضًا الدبلوماسية والمفاوضات. وأدت الأمية التاريخية لدى العرب إلى عدم فهم أن القوة العسكرية لا تحسم وحدها حركة التاريخ، وأنه وبعد أى صراع حربي، هناك معركة أخرى على مائدة المفاوضات، هى فى حقيقة الأمر، المعركة الحاسمة. لقد صنع بعض محبي- وأيضًا كارهي- عبد الناصر، صورة غير واقعية له أنه القائد العربى الذى سيُلقى بإسرائيل فى البحر، وفى حقيقة الأمر لم يصدر عن عبد الناصر هذا التصريح قط، الأسوأ من ذلك أن إسرائيل روجت لهذا الأمر، لتبدو كعادتها فى صورة الضحية، واستفادت من تصدير ذلك فى الدوائر الغربية. ربما يُفاجئأ البعض بأن عبد الناصر شخصيًا قد سمح بفتح قناة سرية للتواصل مع بعض دعاة السلام فى إسرائيل فى أعقاب هزيمة يونيو 67، واستمرت هذه القناة حتى وفاته، أى أنها كانت مفتوحة فى وقت هذه المحادثة «التسريب». وأرجو ألا يُفهَم كلامى الآن، وفى ظل الأوقات العصيبة التى تعيشها المنطقة، والتى هى بالقطع أسوأ مرحلة فى التاريخ المعاصر، أننى أقول ذلك لأنى من دعاة «التطبيع»! ما أقوله ينبع من مهنتى وطريقة تفكيرى كمؤرخ، مهموم بماضى وحاضر المنطقة. والمصدر الذى أعتمد عليه، هو أحد أهم المصادر التاريخية لفترة ثورة يوليو، وهو أحمد حمروش، فمن هو أحمد حمروش؟ أحمد حمروش هو أحد أهم الضباط الأحرار فى تنظيم ثورة يوليو، ويعتبر من الصف الثانى بعد ضباط مجلس قيادة الثورة. وينتمى حمروش إلى الجناح اليسارى فى ثورة يوليو، وبصفة خاصة التنظيم المعروف بحدتو. وتولى حمروش العديد من المناصب الثقافية والصحفية فى فترة عبد الناصر. كما تولى ابنه علاء حمروش منصب رئيس اتحاد طلاب مصر، وتوفى فى سن مبكر. والأهم من ذلك أن أحمد حمروش هو صاحب موسوعة تاريخ ثورة يوليو، والحق أن حمروش شخصية وطنية لا غبار عليها. كتب حمروش مذكراته المهمة ونشرها تحت عنوان مثير وهو «نسيج العمر». وما يهمنا هنا هو الأجزاء التى يروى فيها حمروش ذكرياته عن السماح له من جانب عبد الناصر بفتح قناة تواصل «سرية» مع أنصار السلام فى إسرائيل، وإلى أى مدى يمكن التأثير على المجتمع الإسرائيلي، بل وصانع القرار فى مسألة «السلام». وما رصدة حمروش نتناوله اليوميات القادمة بأذن الله