أراهنك أنك كل ما ستفعله فى هذه الحالة هو أنك ستقاطع مشروب الينسون ما بقى من حياتك شر البلية مايضحك.. تذكرت هذا القول المأثور وأنا أتأمل تلك الأسئلة التى نسألها تلقائياَ لمن يخبرنا بنبأ وفاة شخص ما.. لا أقصد السخرية من خبر الوفاة بالطبع ولكنى أضحك لأنى اكتشفت أن الأسئلة التى نسألها وإن كانت تبدو أنها تدور حول شخص المتوفى إلا أنها فى الحقيقة تخصنا نحن السائلين.. لا تعجل عليّ عزيزى القارئ الكريم ولا تتسرع فى الحكم على حالتى العقلية معتقداً أننى ربما أهذى بكلمات لا أعنيها، بل انظرنى أخبرك بتفسير ما أقول بأمثلة حية من تلك الأسئلة وسأترك الحكم لك فى نهاية المقال. تأمل معى أول سؤال تسأله لو جاءك خبر وفاة شخص ما خاصة لو لم تكن تربطك بهذا الشخص علاقة قوية مباشرة تمكنك من معرفة كل المعلومات عنه وعن ملابسات وفاته، فأول سؤال ستسأله لمن ينقل لك الخبر: هل كان المرحوم مريضا؟!..طبعا الموت ليس فى حاجة لأن يكون الميت مريضاً بل كل مافى الأمر أن أنتهى أجله ولن تفرق حالته الصحية، لكن الحقيقة أنك عندما تسأل هذا السؤال إنما تريد أن تطمئن على نفسك أنت أولاً خاصة لو كنت ممن يتمتعون بصحة جيدة.تتمنى فى قرارة نفسك لو عرفت أن من سمعت خبر وفاته كان مريضاً حتى تبعد عن نفسك شبح الموت،لذا ورغم حزنك على المتوفى نفسه وهو أمر لا شك فيه إلا أنك ستكون فى قرارة نفسك سعيداً بصحتك القوية التى تعتقد أنها تبعد عنك فكرة أن تصيبك مصيبة الموت التى لا نحب أن نخوضها رغم أنه لا أحد منا ينكر أنها مصير كل حى مهما كانت درجة ايمانه وعقيدته. أما إذا كنت تعرف المرحوم جيداً وجاء موته فجأة بينما كان فى عز شبابه مثلاً وصحته جيدة فسيكون سؤالك فى هذه الحالة:هل مات فى حادث؟ بل وستجيب على نفسك بنفسك قائلاً: بالتأكيد كان حادثاً، فكيف وأين وقع هذا الحادت؟.. طبعاً ستصدم لو عرفت أن الميت مات على فراشه بدون أية مقدمات ولا أسباب من التى تحب أن تسمعها فقط لتبعد الموضوع عنك شخصياً وأن كل ما فى الأمر أنه طلب أن يشرب كوباً من الينسون قبيل نومه لأنه يشعر بوخزة طفيفة فى صدره وشرب الينسون ونام، وعندما تأخر فى الاستيقاظ وذهب أهله لإيقاظه لم يستيقظ وأسلم الروح لبارئها.. أراهنك أنك كل ما ستفعله فى هذه الحالة هو أنك ستقاطع مشروب الينسون ما بقى من حياتك ولن تطلب منه كوباً قبل النوم حتى لو شعرت بمليون وخزة وليس فقط وخزة صغيرة مع أن الينسون ليس مسئولاً بالطبع عن الوفاة. لن يتوقف الأمر عند هذين السؤالين بل ستنهال على محدثك بسيل من الأسئلة التى تريد بها أن تعقد مقارنة بين ظروفك وظروف المرحوم حتى تطمئن بأنك لن تموت قريباً وأن العمر لا يزال أمامك طويلاً وأنك ربما ستكون آخر من يغادر الدنيا. من أمثلة هذه الأسئلة :كم كان عمر المرحوم بالظبط؟..فلو كنت فى الخمسينيات مثلاً ستدعو الله أن يكون هو فى الستينيات ولو كنت فى الستينيات لتمنيته فى السعبينيات وهكذا وستحزن بشدة لو كان الميت فى نفس سنك، فقد عشت عمرك كله حتى الآن معتقداً أنك وكل أبناء جيلك لا يزال العمر أمامكم طويلاً جداً.فإذا اطمأننت من هذه الناحية سألت هل للميت أولاد..هل أنهى رسالته تجاههم وزوجهم أم أن منهم من لا يزال فى التعليم وأمامه وقت طويل حتى يتخرج ويعمل ويتزوج، هل كان متزوجاً ولو كانت الاجابة بنعم فهل كان يعيش حياة زوجية مستقرة أم أنه كان يعيش فى نكد أودى بحياته.طبعا ستقارن ما تسمعه من إجابات بحالتك الزوجية.. هل حقق الراحل أحلامه أو حتى جزء منها؟ فالكثيرون ومنهم كاتب هذه السطور يظن أن الموت لن يأتى قبل أن نطمئن مثلاً على صغارنا حتى نراهم فى الكوشة بل هم وأولادهم من بعدهم ، وقبل أن نحقق كل ما نحلم به سواء ونحن كبار أو من أحلام الطفولة التى تظل عالقة بنا حتى الممات مثل الحياة داخل الأساطير والحواديت والسفر لجميع أنحاء الدنيا وأن نجمع من الثروات والكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة وأن تعيش شاباً فلا تهرم أبداً، صحيحاً لا تسقم أبداً، سعيداً فلا تشقى أبداً، ليس بمفردك بل أنت وكل أحبابك ثم تكتشف أن كل تلك أضغاث أحلام لن تتحقق وسرعان ما تستيقظ منها على الواقع الذى سرعان ما تهرب منه أيضاً مع سماعك خبر وفاة جديد لتخرج منك مرة أخرى ومن جديد نفس تلك الأسئلة الساذجة!