راسل فوجت: حان لإصلاح جذري يُنهي هيمنة البيروقراطيين ويُعيد الحكم إلى يد الرئاسة في الزوايا المظلمة من بيروقراطية واشنطن، تحرك راسل فوجت الذي يتولى إدارة الميزانية الأمريكية ليعيد تحرير نص الجمهورية الأمريكية بقلم مُشحون بعقيدة مُحافظةٍ صارمة.. حيث فوجئت النخبة بأن ما بدا فوضى عشوائية في ولاية ترامب الثانية كان في الحقيقة تنفيذًا ل«خطة قديمة»، كُتبت على مدى سنوات في مراكز بحث يمينية، ونضجت على يد رجل لا يهمهم بكلمات بل يُقنِع المسؤولين ثم ينفذ، ما فتح الباب أمام عقلٍ يخطط لانقلاب إداري ناعم، يُحوّل مؤسسات الحكم إلى آليات طيّعة لمشروع أيديولوجي لا يعترف بالحياد.. إنه راسل فوجت، الذي نسّق مشروع إعادة تعريف الدولة الأمريكية، حيث الحكومة الأمريكية باتت أداة لتقليص نفسها، والبيروقراطية تُفرّغ من الداخل ب«اسم الدستور»، فما هي القصة وما معنى ذلك؟ بينما انشغل الإعلام الأمريكي، بعروض الملياردير إيلون ماسك ومظاهر الفوضى في بداية ولاية الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب الثانية، كان فوجت ينسج بهدوء خطة مدروسة لتقليص دور الحكومة الفيدرالية وإعادة تشكيلها وفق رؤية محافظة صارمة، لم يكن الهدف فقط خفض الميزانيات، بل إعادة تعريف دور الدولة الأمريكية من الأساس. وفي هذا الملف، تستعرض «بوابة أخبار اليوم» كيف أصبح فوجت أحد أخطر صناع القرار في واشنطن، رغم أنه لم يظهر كثيرًا أمام الكاميرات، لكنه اليوم أحد مهندسي المرحلة الجديدة في صناعة القرار بالولايات المتحدة. اقرأ أيضًا| «نيويورك تايمز» تحلل موقع دونالد ترامب وسط ثلاثية قابلة للانفجار ما هي رؤية فوجت؟ وفقًا لما أفادت به مجلة «ذا إيكونوميست» البريطانية، لا تقتصر خطة راسل فوجت على تقليص حجم الحكومة الأمريكية، بل تتعداها إلى إعادة هيكلة عميقة للدولة الأمريكية كما نعرفها، حيث يؤمن فوجت بنظرية "السلطة التنفيذية الموحدة"، ويسعى لتجريد الخدمة المدنية من استقلالها، واستبدالها بموالين للرئيس الأمريكي، مع تفكيك الوكالات الفيدرالية أو إخضاعها لسيطرة مباشرة من البيت الأبيض، أي باختصار، يريد تركيز السلطة كلها في يد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب. رغم عمله بجوار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب لسنوات، لم يحظَ فوجت بنفس الشهرة التي نالها آخرون مثل ستيفن ميلر الذي درس ترامب مؤحرًا تعيينه مستشارا للأمن القومى الأمريكى، ومع ذلك، هو أحد أبرز العقول المدبّرة لمشروع "2025"، ويقود الآن من موقعه في مكتب الإدارة والميزانية خطة دقيقة لتطويع الحكومة الأمريكية لصالح أجندة الرئيس الأمريكي ترامب. تفكيك الدولة من الداخل.. «خطوة بخطوة» منذ لحظة توليه منصب مدير وكالة حماية المستهلك المالي بالإنابة، بدأ فوجت في اتخاذ قرارات حاسمة، بدايةً من فصل 1500 موظف، وإغلاق المكاتب، وإلغاء العقود.. والآن، يسعى بالتعاون مع ترامب لتحويل عشرات الآلاف من الموظفين الفيدراليين إلى فئة يمكن للرئيس الأمريكي فصلهم مباشرة، وهذه الإجراءات لم تعد مجرد أفكار جذرية، بل خطوات تنفيذية بدأت تتحقق. فيما يرى معارضو فوجت، أن سياساته تهدد بفك توازن السلطات الأمريكية، وتقليص تمويل وكالات أُنشئت بقرارات من الكونجرس الأمريكي، أو تجاوز المحاكم، قد يدفع بالبلاد إلى أزمة دستورية، لكن أنصاره يؤكدون أن هذه الصراعات مطلوبة لإحداث التغيير الجذري المطلوب، وبحسبهم، «لا يمكن تجديد النظام دون كسر بعض القواعد أولاً». وفي ذات السياق، يصف ستيف بانون، أحد أقرب حلفاء راسل فوجت، ما يحدث بأنه قطيعة مع السياسة التقليدية، وبالنسبة له، لا مكان لحلول وسط، وما يطرحه فوجت من خطة هو مواجهة مباشرة مع الكونجرس الأمريكي والمحاكم، هدفها فرض رؤية جديدة للحكم، ويقول بانون: "هذه ليست لعبة، طرف سيفوز، والآخر سيخسر، لا بد من البدء من جديد". البيت الأبيض يرد: فوجت هو الرجل المناسب ورغم الامتناع عن الرد المباشر على الأسئلة حول هذا النهج، وصف المتحدث باسم البيت الأبيض راسل فوجت بأنه "وطني"، مؤكدًا أنه الشخص الأمثل لتنفيذ أجندة ترامب، أما فوجت نفسه، فكتب بوضوح أن "عصر الدستور قد انتهى"، وأن الوقت حان لإصلاح جذري يُنهي هيمنة البيروقراطيين ويُعيد الحكم إلى يد الرئاسة. لكن يتوقع أنصار فوجت صدامات مباشرة مع القضاء الأمريكي، وحتى مع المحكمة العليا، فبعضهم، مثل المحامي مايك ديفيس، لا يستبعد رفض تنفيذ قرارات المحكمة الأمريكية إذا تعارضت مع ما تراه الإدارة صلاحيات تنفيذية أصيلة، ويقول ديفيس: "لا يمكن تنظيف المستنقع إلا بإجراءات جريئة، حتى لو كانت غير مسبوقة". اقرأ أيضًا| تحقيق «إن بي سي» يكشف كيف ساعدت إدارة ترامب ماسك في التخلص من الرقابة؟ من هو راسل فوجت؟ نشأ فوجت، في بيئة مسيحية محافظة بولاية كونيتيكت الأمريكية، ودرس في جامعة ويتون الإنجيلية، وكان شغوفًا بالقراءة وهادئ الطباع، ولم يُعرف وقتها بشخصية أيديولوجية متطرفة، وفي البداية، كانت طموحاته متواضعة، كتحسين برنامج إعادة التدوير في الجامعة، لكن هذه الملامح تغيّرت تمامًا مع انتقاله إلى واشنطن، بحسب مجلة «ذا إيكونوميست» الأمريكية. تكوينه السياسي.. من الكابيتول إلى «هيريتيج» قضى فوجت عشر سنوات داخل الكونجرس الأمريكي، بينها فترة تحت قيادة نائب دونالد ترامب خلال ولايته الأولى مايك بنس، ثم أصبح مديرًا للجنة الدراسات الجمهورية التي تضغط على الحزب من اليمين، لكن، عام 2010، غادر الكونجرس لينضم إلى مؤسسة هيريتيج المحافظة، وهناك صقل مهاراته أكثر في إدارة السياسات الحكومية. في عيون اليمين الأمريكي، يُعد فوجت واحدًا من القلائل الذين لا يكتفون بالتنظير، بل يعرفون كيف تُنفذ السياسات على أرض الواقع، حيث يقول توم فيتون من منظمة "جوديشيال ووتش" الأمريكية غير الحكومية: "هناك كثيرون يتحدثون عن ما يجب فعله، لكن قلائل يعرفون كيف يفعلونه.. وراسل فوجت هو أحد هؤلاء". بينما شهدت فترة حكم الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما صعود تيار "حزب الشاي" الرافض للبيروقراطية والإنفاق الحكومي، وكان الشعار آنذاك هو تقليص الدولة لحجم يمكن إغراقه في المغسلة، لكن راسل فوجت أراد أن يذهب أبعد من ذلك، ليس فقط تقليص الحجم، بل إعادة تصميم النظام بالكامل، خطوة بخطوة، عبر معارك تشريعية ودستورية مقصودة. «حرب على 30 جبهة».. بداية التحول الجذري بعد فشل الجمهوريين في الفوز بالبيت الأبيض عام 2012، اجتمع راسل فوجت ضمن مجموعة صغيرة من النشطاء في مكاتب Judicial Watch، بالقرب من مبنى الكابيتول، بهدف وضع رؤية جديدة، أطلقوا على أنفسهم اسم Groundswell، وكان هدفهم الطموح هو إحداث "تغيير جذري في الأمة" عبر "حرب على 30 جبهة". جمعت هذه الاجتماعات الأسبوعية شخصيات مؤثرة مثل جيني توماس وستيف بانون، واتحدوا على قناعة بأن المؤسسة الجمهورية لا تملك الجرأة الكافية، مطالبين بسياسات أكثر تصادمية وأفكار أكثر جرأة. في بداية عهد باراك أوباما، شرح راسل فوجت لصديقه إريك إريكسون كيف أن الخدمة المدنية، رغم كونها رسميًا غير حزبية، تمتلئ بأشخاص يسعون لإجهاض السياسات المحافظة، وهذه الرؤية كانت نواة الخطاب الذي اعتمده لاحقًا خلال فترة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والمبني على فكرة «بيروقراطية مسيّسة»، استخدم فوجت هذا التصور لتبرير تدخلات قوية داخل مؤسسات يُفترض أنها محايدة. نظرية السيطرة الكاملة على السلطة التنفيذية منذ أيام الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريجان، سادت بين بعض الجمهوريين فكرة "السلطة التنفيذية الموحدة"، التي تمنح الرئيس سيطرة كاملة على الأجهزة التنفيذية، بما في ذلك المؤسسات المستقلة مثل الاحتياطي الفيدرالي وهيئة الأوراق المالية. وحينها سعت مراكز مثل هيريتيج لتفعيل هذه الفكرة منذ الثمانينات، واقترحت حينها ملء آلاف الوظائف بموالين سياسيين. لكن صعود ترامب عام 2017 للرئاسة الأمريكية، أعاد إحياء هذه النظرية بقوة غير مسبوقة، خاصة بعد اتهام "الدولة العميقة" بإفشال رئاسته، وهنا، برز دور فوجت مجددًا، ولكن هذه المرة من داخل إدارة ترامب نفسها. اقرأ أيضًا| خبراء يحذرون: إدارة ترامب تُضعف القاعدة الصناعية وتُشعل صراعات داخلية.. ما القصة؟ اللحظة الفارقة ل«فوجت» في عهد ترامب خلافًا للنهج التقليدي لمديري مكتب الميزانية، لعب راسل فوجت دورًا محوريًا خلف الكواليس في أكثر فترات ترامب حساسية. ففي عام 2019، عندما طلب ترامب من الرئيس الأوكراني حينها، التحقيق مع جو بايدن، كان مكتب فوجت هو من أوقف المساعدات العسكرية، ما أدى لمحاكمة ترامب الأولى، ولاحقًا، حين رفض الكونجرس الأمريكي تمويل الجدار الحدودي، أقنع فوجت الرئيس بإعلان الطوارئ لتحويل ميزانيات من وزارة الدفاع لدعم المشروع. تبنٍّ صريح للأفكار الجذرية لا يخفي راسل فوجت فخره باتخاذ مواقف صدامية، خلافًا لكثير من المحافظين، في إحدى فعاليات هيريتيج، سخر من بعض أعضاء إدارة ترامب الذين أعربوا عن قلقهم من "كسر القانون"، مُعتبرًا أن الجرأة كانت ضرورية. وفي 2023، تحدث فوجت صراحةً عن رغبته في إحداث "صدمة نفسية" للبيروقراطيين لجعلهم يخشون الذهاب إلى أعمالهم، كما دعا إلى تقليص تمويل المؤسسات البيئية لمنعها من فرض قيود على قطاع الطاقة. كما يروج فوجت بقوة لإحياء سلطة "الحجز الرئاسي"، التي تسمح للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب بتجميد الإنفاق الذي أقره الكونجرس، وهذه الصلاحية كانت قد حُظرت منذ 1974، وقضت المحكمة العليا بعدم دستوريتها، لكن فوجت يعتبرها وسيلة ضرورية لمعالجة عجز الميزانية، ويبدو أن هذا التوجه ليس مجرد فكرة عابرة، بل جزء من خطة أوسع لتغيير التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. وفي مطلع هذا الشهر، قدّم البيت الأبيض ميزانيته المقترحة، وتضمنت تخفيضات حادة بقيمة 163 مليار دولار، ومن بين الإجراءات، تقليص ميزانية مراكز السيطرة على الأمراض بنسبة 40%، وخفض برامج دعم الإيجار، وتقليص المساعدات لبنوك التنمية الدولية، كما برر راسل فوجت هذه التخفيضات بأنها تستهدف "المؤسسات التي تتبنى أيديولوجيات متطرفة حول النوع والمناخ"، مُعتبرًا أنها لا تمثل نمط الحياة الأمريكي. هل تتحول ميزانية ترامب إلى أزمة دستورية؟ في العادة، تُعتبر ميزانية الرئيس الأمريكي وثيقة رمزية بلا فرص فعلية للتنفيذ الكامل، إذ يملك الكونجرس الأمريكي سلطة القرار المالي، لكن نظرًا لتوجه ترامب غير التقليدي، يرى البعض أن هذه الميزانية قد تكون مُقدمة لأزمة دستورية جديدة، لكن السيناريو المتوقع.. هو أن الكونجرس يرفض تمرير التخفيضات، فيمضي ترامب في تنفيذها، مما يفتح الباب لطعون قانونية وتحديات قضائية قد تواجهها إدارة ترامب باعتبارها صاحبة تفويض شعبي وحق تنفيذي مُطلق. ورغم الدعم الواسع، إلا أن بعض المحافظين بدأوا يُبدون قلقهم من التركيز المفرط للسلطة في يد الرئيس الأمريكي، فمثلا، أعرب فيليب والاش من معهد أمريكان إنتربرايز، عن دعمه لتقليص نفوذ البيروقراطية، لكنه حذر من أن فوجت يتجاهل مبادئ دستورية أساسية، كفصل السلطات، وقال: «تثير إدارة ترامب هذه الكثير من لحظات الحقيقة أمام المهتمين بالحكم الدستوري». فيما يعترف حلفاء راسل فوجت، أن مشروعه محفوف بالمخاطر، خاصة إذا عاد رئيس ديمقراطي إلى الحكم، لكنهم يرون أن تقليص حجم البيروقراطية هو الضمان الوحيد لعدم استخدامها ضد الأجندة المحافظة في المستقبل، وكما قال إريكسون: "التحدي الحقيقي هو: «كيف نجعل البيروقراطية خاضعة للرئيس الأمريكي الحالي، دون أن تتحول إلى أداة بيد خصومنا لاحقًا؟»، وجوابه - برأيه - يكمن في تقليصها.. لا تعزيزها. اقرأ أيضًا| «من زفايج إلى ترامب».. سردية انهيار النظام تتكرر بلغة أمريكية