إلى السيدات والسادة الكرام قراء اللواء الإسلامي، إلى شعب مصر الأبيّ، إلى أبناء الأمتين العربية والإسلامية، إلى كل إنسان في الوجود، إلى كلّ قلبٍ يتوق إلى النور، وكلّ روحٍ تشتاق للهداية، مرحبًا بكم في رحلةٍ جديدة من رحاب القرآن الكريم، حيث نغوص في أعماق معانيه، ونبحر مع آياته العظيمة، ونستضيء بنوره، ونتزوّد من هدايته، ونستلهم نفحاته ورحماته. في هذه المقالة، نُبحر معًا في أنوار الجزء السادس من القرآن الكريم، نستخرج منه اللؤلؤ والمرجان، ونتأمل في عجائب أنواره وحِكمه الإلهية، التي أودعها الله سبحانه وتعالى في هذا الكتاب المعجز. ولا يخفى على كريم علم حضراتكم أن تحت كل كلمةٍ وآيةٍ من هذا الجزء الشريف، كنوزًا من العلوم والأحكام الفقهية، والآداب، والبحوث العميقة. غير أن المقالة لا يسعها حصر ذلك جميعًا، لذا فإن منهجنا هو أن نغترف شيئًا يسيرًا، نأخذ قبساتٍ من القيم القرآنية، لنتزوّد بها جميعًا علمًا ونورًا وروحانيةً. أول وقفة لنا اليوم عند مطلع الجزء الذي سُمِّي به، وهو: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوٓءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ..."قال الله تعالى: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوٓءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ - وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا» (النساء: 148)، هل تدركون عمق هذا الخطاب الإلهي المحكم؟كم مرةً يكرر المولى - جل جلاله- في مواضع عدة من القرآن الكريم والسنة النبوية التحذيرَ من فُحش القول؟ احذروا -أحبتنا الكرام- أشد الحذر من السبّ والشتائم، ومن الهَمْزِ واللمزِ، والغيبة والنميمة، والتنمّر بالكلام، وانتقاص الناس، والتدخّل فيما لا يعني، أو الخوض في أعراضهم بالباطل، أو حتى الانجرار إلى معارك لفظية على وسائل التواصل الاجتماعي؛ فهذه الأمور تُظلِم القلب، وتحجب عن صاحبها نور الله. فحين يقول الحق جلّ وعلا: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ»، فذلك يعني أنه يبغض ذلك ويكرهه، وهو أمر يورث الإنسان ظلمة في القلب وانقطاعًا عن نور الرب. احذروا اللسان، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «وهل يكبُّ الناسَ في النارِ على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم؟"وقال عليه الصلاة والسلام: «ليس المؤمن بالطعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء".لماذا أُكرّر هذا الحديث، وأتوقف عند هذه اللمحة من الجزء السادس؟ لأننا بحاجة إلى مواجهة ما نراه منتشرًا في بعض المجتمعات من تساهلٍ مقلقٍ في إطلاق الشتائم، سواء في البيع والشراء، أو في المعاملات، أو حتى في المزاح!بعض الناس لا يبالون بجرح مشاعر الآخرين أو إهانتهم، بل ربما يجدون لذة في ذلك، رغم الألم الذي يتركه هذا الفعل في القلوب. فانتبهوا! لقد قال أحد الشعراء المهذَّبين بأنوار القرآن: وإنِّي لَيُثنيني عنِ الشتمِ والخنا وعن سبِّ ذي القُربى خلائقُ أربعُ حياءٌ وإسلامٌ ولُطفٌ وأنَّني كريمٌ ومِثلي قد يَضُرُّ وينفعُ فإن كان الترفُّع عن القُبح من شِيَم الكبار من الناس، فكيف يغفل بعضنا عن قول الله تعالى: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ»، علمًا بأن بعض الناس يظن أن الآية تبيح للمظلوم أن يشتم ويقبح القول، وهذا فهم خاطئ. فحين سُئل عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- عن هذه الآية، قال: «إلا من ظُلم» أي: له أن يشتكي على من ظلمه، وله أن يرفع أمره إلى القضاء، ويطلب حقه بالطرق المشروعة، لكن ليس له أن يشتم أو يكون فاحشًا في القول. أما الوقفة الثانية في الجزء السادس، فمع قول الله تعالى:"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» (المائدة: 3)، تأملوا جمال هذا البيان الرباني! القرآن الكريم يُصقل العقل، ويهذّب الفكر، ويُعمّق الوعي. انظروا إلى دقة اختيار الألفاظ في هذه الآية: «أكملتُ» و»أتممتُ»، وكأن الله جلّ وعلا يريد من الإنسان أن يعتاد الإكمال والإتمام، لا أن يتوقف في منتصف الطريق. ففي آية الصيام قال تعالى:"وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ» (البقرة: 185).وفي آيات الحج: «فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ - تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ» (البقرة: 196).وفي سورة الأنعام: «ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ...» (الأنعام: 154).إنه منهج قرآني متكرر: الإكمال، والإتقان، والاستدامة. كأن القرآن يريد أن يغرس فينا قيمة الاستمرارية، وأن نُتمّ أعمالنا بإخلاصٍ وكمال. ومن عجائب البيان في الذكر الحكيم، قوله تعالى: «قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ» (المائدة: 15)، فقد وصف الله تعالى نفسه بالنور، ووصف نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالنور، ووصف القرآن بالنور. كأن الإسلام كله نورٌ للعقول والقلوب، وضياءٌ للطرق والمسالك. وفي موضع آخر، قال تعالى: «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا - وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» (المائدة: 32)، فالشريعة جاءت بالحياة، والإحياء، والنور، والطهارة، والاستقامة في القول والعمل. وفي ختام مقالة هذا الأسبوع، نسأل الله أن يُطهر ألسنتنا، ويُنير قلوبنا، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وتذكّروا دومًا أن كل كلمة ننطق بها قد تُكتب لنا أو علينا، وأن الكلمة الطيبة صدقة، وأن الصمت عن الباطل عبادة. وإلى لقاء يتجدد...