أثلجت المؤسسات الدينية صدورنا عندما اتفقت على قانون «تنظيم الفتوى»، بعد نقاشات قوية من كل الأطراف؛ وهو الاختلاف الذى أخرج لنا «رحمة» القانون الذى تأخر كثيرًا حتى وجّه إليه الرئيس السيسى شخصيًّا بعد عدة إفتاءات شاردة ممن يهرفون بما لا يعرفون، رغم أنهم أعضاء فى المؤسسة الأزهرية؛ وهو ما استدعى وقفة حازمة لنفى الخبث وكشف المعدن الحقيقى للعقول الأزهرية المتوضئة بأنوار العلوم الدينية المُباركة. «تُشرفنى الموافقة على هذه المادة».. جُملة تكررت كثيرًا، وبأدبٍ رزينٍ، من وزير الأوقاف د. أسامة الأزهرى فى الجلسة النهائية لمناقشة قانون «تنظيم الفتوى»؛ وقد نالت ردود الوزير الهادئة والمتزنة ما يليق بها من تصفيق النواب واستحسان الجمهور؛ فكسب د. الأزهرى بورعه الجمّ قلوب النواب قبل تأييدهم؛ كسب احترام الأزهر ومُباركته رغم خلافه الأوّليّ معه؛ وكسبت الأوقاف به مهام أُخرى تُضاف إليها تحتاج إلى ضوابط صارمة واستعدادات كبيرة، كانت فى غنى عنها؛ ولا أشكّ أنها قادرة على الوفاء بمتطلباتها ما دام حاديها هذا الوزير الهُمام؛ كسبت الأوقاف ولم يخسر الأزهر؛ كسبت الأوقاف بالقانون، وكسبت الإفتاء مُناصرًا ومُعينًا على آلاف الفتاوى التى تصدر عنها سنويًّا (أكثر من مليون وستمئة ألف فتوى سنويًّا، ستون بالمئة منها عن الأحوال الاجتماعية)؛ فالمصريون لديهم شغف هائل بالفتوى والاستفتاء؛ وربما يقف الأمر عند حدود السؤال فقط دونما خطوات حقيقية لتنفيذ الفتوى: ازدياد الخلافات العائلية بين الأقارب فى المواريث وغيرها، وازدحام محاكم الأسرة بآلاف القضايا التى تنتظر البتّ.. وهو ما يكشف حجم الهوة السحيقة بين اللغو اللفظى والرغبة فى الاستفتاء من جانبٍ؛ وقلة الوعى الفعلى وغياب الوازع العملى للسؤال المتفقّه عن الحقوق والواجبات الحياتية، من جانبٍ آخر. المُفتى يُخلق ولا يُصنع.. هكذا ظننتُ، أو هذا ما كنتُ أرجو! ولكن دار الإفتاء تؤكد أنه صناعة قابلة للإنشاء والتطوير والتحديث؛ وهى التفاتة جديرة بالانتباه والتركيز فى عصر الذكاء الاصطناعى والميديا الناطقة والفضاءات الزرقاء التى تتداخل فى أمور حياتنا، شئنا هذا أم أبينا.. منذ سنوات عديدة ودار الإفتاء المصرية تضع أعينها على أدوات التكنولوجيا الحديثة باعتبارها واقعًا معتبرًا فى حياة الناس؛ تتفاعل مع الجديد فيها وتخلطه بالآراء الفقهية، وتُحاول أن تستفيد من هذه الأدوات فى «صناعة» المفتى القادر على إجابة المستفتى دونما خطل أو خطأ أو بلبلة؛ وهذا ما لم يحدث من مسئولى الإفتاء فى معظم الدول التكنولوجية الكبرى الذين يتمسّكون بالقوالب القديمة للفتاوى ويرفضون استخدام التكنولوجيا ولو بضوابط صارمة؛ متناسين أنه لا محيص عن مُطاوعة العصر، ولا وزَرَ من موجاته الزاحفة نحو رواسخنا الفقهية التليدة، التى نحسبها عقيدة لا مساس بها، وما هى إلا آراء علمية، مُعتبرة نعم، مؤسسة نعم، ولكنها تبقى وليدة زمان غير الزمان؛ وفى فقه سيدنا الإمام الشافعى نفسه «رسالة» لنا للارتقاء إلى معارج التفكر فى التجديد المستمرّ لفقه الواقع، دونما افتئات على ثوابت الدين وعلوم اليقين.