«يا ولدي.. هذا عمك جمال». مقولةٌ جرى تداولها فى عالم السياسة ذات زمان بعيد، غير أنها مناسبة تماما للاستخدام مع جمال الغيطاني، الذى يختزل اسمه صفات عديدة من بينها: الروائي، المبدع، الصحفي، الوطني. تعقب كل صفة منها كلمة الكبير، قبل أن تجتمع تحت عباءة واحدة هى: «الإنسان». عرفتُه قبل أن ألتقيه بسنوات، عبْر روايات فتحتْ أمامى فضاءات إبداع مغاير، وظللتُ أتنقّل بين كتاباته الأدبية وصوره الفوتوغرافية، كى أرسم صورة إنسانية للرجل الذى يختفى وراء صفحاته المفجرة للخيال. كثيرا ما استهوتنى فكرة رسم البورتريهات بالحروف، لأنها أقرب إلى تحليلٍ نفسى يعتمد على تفاصيل الوجه، وحركات تُجمّدها كل صورة. هكذا حاولتُ استشراف ملامح الشخصية عن بُعد، إلى أن جمعنا اللقاء الأول فى 1995، لأثبت وجودى فى دفتر أحوال مملكة «أخبار الأدب». عشر سنوات قضيتُها فى الجريدة، وضعتْ أسُس بنيانى الصحفى والفكري، مثلما ساهمتْ بدرجة كبيرة فى تشكيل شخصيتي، برعاية الغيطانى الذى منحنا حرية حركة فى التفكير والتعبير، وحتى فى الاختلاف معه شخصيا، وأعتقد أنه استفاد من بعض تركيباتنا النفسية فى أعماله، حيث كان قناصا ماهرا للتفاصيل! بفارق عمر يقترب من الربع قرن، تعامل الرجل معى بحكمة الكبار، وتحمّل مشاغباتى التى وصلت أحيانا لدرجة الخلاف معه، خاصة فى ملف الآثار الذى توليتُ مسئوليته، وهى مهمة بالغة الصعوبة عندما يكون رئيس التحرير عاشقا للتاريخ، لكنه منحنى فرصة التعبير عن قناعاتي، ولم يخل الأمر مراتٍ من عتاب أبوي، كنتُ أتعامل معه بعصبية شاب يتمرد على الضوابط، بعد أن نال الحد الأقصى من الحرية. الآن فقط أشعر كم تحمّل اندفاعاتي، وأنا الذى بدأتُ أضيق بالصخب فى سن مقاربة لعمره وقتها. قبل أيام شاركتُ فى احتفالية متحف نجيب محفوظ بالذكرى الثمانين لميلاد الغيطاني، واستحضرتُ مع صديقى طارق الطاهر ذكرياتنا معه. انتابتنى موجة حنين مُلبدة بالشجن، غير أن ما خفف أحزان الغياب، هو الحضور المزمن.. لعمنا جمال.