بفارق توقيت بسيط، تزامنت ذكري ميلاده مع ذكريات الوزير الأسبق. الماضي هو البطل في الحالتين مع فارق جوهرى، فشخصية جمال الغيطانى شكّلت- بتفاصيلها المتعددة- جزءا من ملامح الوطن فى حقبة ضبابية، ومن هذه التفاصيل دفاعه الوطنى عن تراثنا المهدد. بينما يحاول فاروق حسنى إعادة رسم ملامحه الشخصية، بعد رحيل واحد من أكبر معارضيه، ويواصل إنتاج أفكاره السابقة، ويصمت كثيرا عن وقائع مهمة، إما لكونه لا يملك تبريرات لها، أو لأنه لم يواجه سؤالا حولها. ومن الطبيعى أن يكون الغيطانى حاضرا خلال عملية» غسيل سمعة« شهدتها مذكرات الوزير، التى خرجت على شكل حوار فى كتاب، يتضمن تلميحات إلى أن منطلقات الكاتب الكبير كانت شخصية، بينما يتجاهل الكتاب نفسه الدوافع الشخصية للوزير، رغم أن القضايا عامة فى كلتا الحالتين. التقيتُ مع الكاتب الكبير على حب التراث، مع فارق الخبرة والمكانة. وحّدتنا الرؤية رغم اختلافات متقطعة ومشروعة. هذه الخلافات لم تكن قاصرة علىّ، فكثيرا ما كان نقاشه معنا كصحفيين شباب يتسم بتباين وجهات النظر، وقد منحنا هذا الاختلاف صك براءة، من اتهام سابق التجهيز بأننا «صبيانه»، الذين يستخدمهم فى معاركه ذات المنطلقات الشخصية! ففى سياق المعارك المحتدمة استحضر البعض الصورة الذهنية للحارة، وجعلوا من جمال الغيطانى فتوة يستعين بحرافيشه، لكن سلوك الحوارى كان حاضرا فقط فى أسلوب رد الخصوم على قنابلنا، التى لم يستطيعوا إبطال مفعولها رغم سطوتهم، فلجأوا لإثارة غبار لم ينقشع رغم رحيل الغيطانى. ما أسباب الخصومة التى وقعت بينك وبين الأديب الراحل جمال الغيطانى، والتى انتهت بتصالحكما بعد هجوم كبير ومعارك، وفوزه بجائزة الدولة التقديرية؟ سؤال مُلغم يخلط الأوراق بشكل واضح، ويمنح الوزير أكثر مما يريده، ويجعله فى وضع استرخاء «وكأنه حصل على استراحة محارب» حسب وصف المؤلفة انتصار دردير، وهو وصف صادق تماما. لقد تضمن السؤال الإجابة، ولم يعد الوزير الأسبق فى حاجة إلى تكرارها، فالغيطانى وفقا للصياغة غير البريئة كان يثير المعارك لفرض« إتاوة»، حصل عليها بجائزة الدولة! لهذا تجاوز فاروق حسنى التلميح الواضح، وتفرغ لإثارة المزيد من الغبار، عندما ربط المعارك بوقف إعلانات وزارة الثقافة ل «أخبار الأدب» ! أى أن المصلحة كانت المنطلق فى كل الأحوال. يأتى السؤال التالى هجوميا فى ظاهره، ويتطرق لواقعة شهيرة رفع فيها الوزير أخبار الأدب تحت قبة البرلمان، وتساءل: «هيه دى الصحافة التى تدعمها الدولة لتهاجمنا؟»، فى واقعة تحريض علنية وغير مسبوقة. تساؤل ذكى كان يمكن أن يمحو خطيئة السؤال السابق، لكن الوزير تهرب من تفسير واقعة التحريض، وركز على الشق الأول الذى أكدت فيه محاورته أنه أصدر جريدة القاهرة للرد على مهاجميه. ولأن الحقيقة ليست هدفا أساسيا لم يجد الوزير من يحاصره ليبرر فعلته تحت قبة البرلمان. جاءت واقعة التحريض على الصحافة كرد فعل لحملة انطلقت قبلها بأيام، وكنتُ أحد الأطراف الفاعلين بها، فبعد منتصف الليل تلقيتُ مكالمة هاتفية من الكاتب الكبير، كان صوته يجمع بين الانزعاج والانفعال، حدثنى عن كارثة يتعرض لها متحف الفن الإسلامى. صباح اليوم التالى كنت هناك مع صديقى المصور الراحل يوسف ناروز، ورصدنا الجريمة التى يجرى ارتكابها، يتم نقل عدد هائل من القطع الأثرية بوسائل بدائية، أدت إلى تعرض بعضها للتلف فعليا، وبمجرد عودتنا بالمادة نزلت الصور على الغيطانى كصاعقة، وبدأ إجراء اتصالات عديدة انتهت بتوجه عدد كبير من المثقفين وعلماء الآثار إلى النائب العام، لتقديم بلاغ ضد وزير الثقافة، والمطالبة بوقف تفتيت المتحف الإسلامى. ما حدث كان سابقة فى الحياة السياسية المصرية، فقد جرت العادة أن يلجأ معارضو الوزير إلى القضاء، لوقف إحدى مغامراته فى مجال الآثار، تكرر ذلك فى دعاوى قضائية انتهت بمنع سفر معرضين خارجيين، وإبطال مخطط تدمير هوية باب العزب، لكن اللجوء للنائب العام كان تكتيكا جديدا لم يعتده مسئول الثقافة الكبير، فانفعل تحت قبة البرلمان، وهو ما فتح عليه نيرانا صديقة، حيث هاجمه بضراوة، الكاتب الكبير إبراهيم سعدة، فى عموده بالصفحة الأخيرة فى «أخبار اليوم»، الذى كان يوقعه باسم أنور وجدى. لا مجال هنا لتكرار ردودنا على ادعاءات الوزير، التى نشرتها «أخبار الأدب» على مدار أعداد، فى واحدة من أكبر حملاتها الصحفية، ووثقتُ تفاصيلها فى كتابى الأخير« هدير الحجر»، لكنى سأستعير هنا أسلوب الوزير، بالاعتماد على عبارات عامة، غير أنها كاشفة، ترتكز على وثائق نشرناها فى وقتها. فقد تسبب العبث بالمتحف الإسلامى فى كوارث ذات مستويات متعددة، وشهدت الأحداث معارضة لما يجرى من داخل الوزارة نفسها، تسببت فى الإطاحة بمسئولين فى المجلس الأعلى للآثار ودار الكتب، وكانت النتيجة جرائم مكتملة الأركان، من بينها العبث بمبنى أثرى وتغيير ملامحه، لمصلحة مشروع آخر هو تطوير دار الكتب. ينسى الوزير كل ذلك ويتحلّى بالتسامح المُفرط وهو يقول: «أود أن أسجل عذرى لكل من كان ضدى، لأن من لا يعرف يجهل» !! ثم اختزل تبريراته القديمة فى عبارات مختصرة، ليعيد صياغة ما سبق الرد عليه فى حينه بالمستندات، فالرجل ذكى ويعرف أن ذاكرة السمكة هى المُسيطرة. كما أن الكثيرين خارج سياق الأحداث لا يعرفون كواليس ما جرى. أما فرسان المعركة فمنهم من رحل، ومنهم من اختار الصمت طريقا منذ سنوات، لهذا أصبحت الساحة شبه فارغة، تتيح للوزير الأسبق فرصة الحديث بأسى عن حالة تربص ممن اعتبرهم أصدقاء، ومنهم الكاتب جمال الغيطانى. كتابات الغيطانى موثقة. ينطبق الأمر نفسه على معارك أخبار الأدب فى مجال الآثار وغيرها، وهى معارك كانت تحت إشرافه المباشر، حتى لو لم يكن هو من أطلق شرارتها. كان يتابع مشاغباتنا عن كثب، ويبدى ملاحظاته التى قد نختلف عليها، لكنه لم يكن يتدخل فى حال اختلاف الرؤى، شرطه الوحيد هو التحلى بالمنطق، وهو أمر وضعتُه مع غيرى من الزملاء نصب أعيننا. ورغم أخطاء الوزير الفادحة فى مجال الآثار، إلا أنه ذكى، يعلم أن كل ما نشرته أخبار الأدب أصبح تاريخا، وإذا كان الحاضر وقتها قد دعمه، باعتباره يحتمى بأحد مراكز القوى، فإن أى قراءة مستقبلية ستتخلص من قوى الضغط القديمة، لهذا يحاول كل فترة أن يترك خلفه تفسيرات قد تنصفه لدى الباحثين ذات مستقبل، بعد أن رسّخ ثقافة صخب، يتباكى البعض على ضجيجها المفقود، لدى وزراء تتابعوا بعده دون أن تتاح لهم فرصته فى النفوذ أو الخلود فى مناصبهم! لهذا لم يتطرق الوزير مثلا إلى تفسيرات مطلوبة، لمحاور أساسية تضمنتها معارك الغيطانى والجريدة، ليس مهما أن يتذكر كبار مساعديه الذين تصيدتهم الأجهزة الرقابية تباعا، ولا عمليات الترميم الفاشلة بشهادة تقارير دولية، وحتى بدون شهادتها يظل الواقع شاهدا حيا على ذلك، ويكفى كارثة مدرسة صرغتمش التى سقط سقفها وعادت المياه الجوفية لتحاصرها، بعد أقل من عشرين عاما من ترميمها فى عصره. الوزير معذور، فلم يوجه إليه سؤال حول هذه الأمور ليجيب عليه، ومعظم الأسئلة كانت مجرد تمريرات تتيح له فرصة تسديد هدف، وهذا هو أهم أهداف الكتاب. فاروق حسنى دائما على حق، والخطأ يأتى حتى من الواقفين فى خندقه، ففى أزمة باب العزب يلقى باللوم على محامى الحكومة، الذى تهاون فى التعامل مع القضية بالشكل المطلوب، فإذا كان ذلك ينطبق على محكمة القضاء الإدارى، فلماذا لم يتدارك الوزير الأمر، ويرفع سماعة هاتفه طالبا هيئة دفاع أقوى تنقذه من تأييد الحكم فى الإدارية العليا. خاصة أنه اعترف فى الكتاب باللجوء إلى الهاتف مرات عديدة، لوقف هجمات عليه، لا من المعارضين، بل من جانب وزراء يزاملونه فى الحكومة نفسها، مثل وزيرى الإعلام والداخلية! أى أنه كان يملك القدرة على تشكيل فريق دفاع أقوى، يقيه من حيثيات الحكم التى جاءت كصفعة على وجه المخطط، وتضمنت عبارات بالغة القوة تدين السياسات الأثرية، ولأن حلم الوزير لم يتحقق فقد صرف انتباهه عن تطويرها، بشكل لائق يراعى المعايير الأثرية، لهذا كانت النتيجة أن المكان تحول: « إلى مأوى للخارجين على القانون وأطفال الشوارع عقب أحداث ثورة يناير 2011». هذا ما أورده الكتاب نصا، ليبرهن على رؤيته الثاقبة، ويُحمل معارضى مشروع باب العزب ومنهم الغيطانى مسئولية ما انتهت إليه حالة المنطقة. القول بأن المأساة التى تعرض لها باب العزب كانت بعد ثورة يناير لا يُعفى الوزير من المسئولية، فقد أهمل المنطقة عمدا بعد أن توقف مشروعه، رغم بقائه نحو عشر سنوات فى الوزارة بعد حكم الإدارية العليا، تجاهل خلالها المنطقة التى كانت تحتاج إلى مشروع ترميم جاد، يضع الرؤية الأثرية لا السياحية فى المقدمة. كان هذا تحديدا أحد المحاور الأساسية التى يرتكز عليها هجوم الغيطانى على وزارة الثقافة فى مجال الآثار، فقد حذر أكثر من مرة من التعامل مع الآثار بفكر اقتصادى، لأن ذلك يؤدى إلى نتائج وخيمة فى النهاية، ويجعل الآثار التى يمكن أن تُدر دخلا أولى بالرعاية، بينما تبقى الغالبية العظمى فى المنطقة المظلمة! رحل الكاتب الكبير إذن لكنه باق. عبارة ذات ملامح تأبينية، غير أن الواقع يمنحها حيوية تليق بالخالدين. يكفيه أنه لم يكن من العابرين فى كلام عابر، لهذا بقيت حروفه غائرة داخل البعض، يواصلون تضميد جراحهم منها. شخصيا أرى أن عمليات غسيل السمعة حق مشروع لأى إنسان، لكن المشكلة تبدأ حينما لا يكتفى البعض بصناعة أساطيرهم الشخصية، عبر رسم ملامح ملائكية لهم، ويعمدون إلى تشويه معارضيهم بعبارات تبدو مهذبة فى ظاهرها، وفى باطنها تحتضن الإساءة! ملحوظة أخيرة: المختطف الرئيسى للسفينة الإيطالية أكيلى لاورو لم يكن محمود عباس. ألتمس العذر لذاكرة الوزير، لكن بعض الهنّات قد تؤدى إلى مشكلات دبلوماسية!.