من عمق القاهرة، حيث تختلط الخطى اليومية بصمت الأنفاق، خرجت الحكاية من بين الجدران، تحمل اسمًا يعرفه الجميع وتخشع له الحارة: نجيب محفوظ، لم يكن الأمر فعالية عابرة، ولا زينة مؤقتة لمحطةٍ عابسة، بل كان استدعاءً أصيلاً لروح تسكننا. المترو، هذا الرفيق اليومى الذى نحياه دون أن ننتبه له، صار فجأة راويا لحياة صاحب نوبل، الاقتباسات تمددت بين عربات العابرين، وصوت محفوظ - من أرشيف نادر - يتسلل كنسمة إلى الأذن، يروي، يبتسم، ويشير إلى الحارة، كما لو أنها ما زالت تسكنه. مبادرة «محفوظ... فى القلب»، التى شاركت بها هيئة المترو بالتعاون مع وزارة الثقافة، غيّرت شكل المحطات الكبرى، وجعلت الممرات صفحات تمشي، والقطارات فصولًا تُقرأ، لم تُعرض الحكايات فحسب، بل عُرضت الروح: صورة قديمة، حوار تليفزيوني، خريطة لقاهرة محفوظ، حيث الحارة تتفرع إلى الجمالية وخان الخليلى وشارع النيل، ومقاعده فى «على بابا» تعج بالذكريات. أحمد جمال شاب جامعى توقّف أمام شاشة فى محطة عدلى منصور، وعيناه تلمعان بدهشة لم يكن يتوقّع أن يقرأ «قصر الشوق» بين المحطات، أما السيدة نوال خمسينية من شبرا، فالتقطت أنفاسها أمام صورة بالأبيض والأسود لمحفوظ يدخن، وقالت: «كان وجهه مألوفًا فى طفولتي، لكننى لم أفهم آنذاك لماذا يتحدثون عنه كثيرًا، ولكن الآن فقط، أراه... وأشعر به.» بساطة العرض كانت سرّه، لا تكلف ولا تعقيد، فقط نجيب محفوظ كما هو، كما نعرفه، وكما لا نزال نكتشفه، لقطات قديمة جمعت بينه وبين طارق حبيب وفاروق شوشة، حكايات تُروى وكأنها الآن، ووجوه فى القطارات تصغى بصمت. ليس تكريمًا عابرًا، بل استدعاء حي، كأن القاهرة - المدينة التى شكّلت محفوظ - أرادت أن ترد الجميل: «لم أنسَك». فتاة مراهقة جلست تتابع الشاشة بإمعان، سألناها إن كانت تعرفه، فقالت: «كنت أعرف الاسم، لكننى الآن أريد أن أقرأه». ما حدث لم يكن مجرد تحية لأديب نال نوبل، بل كان تذكيرًا أن الثقافة ليست حكرًا على رف أو قاعة، إنها تمشى معنا، تهمس لنا وسط الزحام، وتُربّت على أرواحنا حين نظن أننا وحدنا، المترو لم يعد وسيلة نقل فقط، بل صار ممشى فى قلب الحارة، وعبره، ربما يسمع أحد الركاب همسة محفوظ: «بين الحلم والحياة، دروب... خذ منها ما شئت، لكن لا تنسَ أن تقرأ.»