على وقع هدير السدود التى فُتحت دون إنذار، وصدى الانفجارات على حدود كشمير المتنازع عليها، تعود واحدة من أخطر بؤر التوتر فى العالم إلى واجهة المشهد الدولى.. الهندوباكستان.. خصمان نوويان، يملكان ترسانة كافية لزعزعة استقرار قارة بأكملها، يدخلان مرحلة جديدة من التصعيد، لا تشبه سابقاتها لا فى التوقيت ولا فى الأدوات. فالأزمة هذه المرة تتجاوز الرصاص والمدافع، لتطال شريان الحياة «المياه»، ومع تحريك ورقة السدود، وانهيار خطوط الاتصال الدبلوماسى، تتقاطع السياسة بالأمن القومى، وتتحول الطبيعة إلى ساحة صراع مرعبة. لكن الشرر المتطاير من هذه الأزمة لا يتوقف عند حدود جنوب آسيا بل يهدد بتداعيات تمس الاقتصاد العالمى، وتقلب موازين القوى فى منطقة الخليج، وتدفع البشرية إلى اختبار جديد على حافة الانفجار. تجدد الصراع بين الهندوباكستان فى 22 أبريل على خلفية هجوم دموى استهدف سياحًا فى بلدة بهلقان بإقليم كشمير، وأسفر عن مقتل 26 سائحًا هنديًا، لتعلن بعدها نيودلهى استهداف 9 مواقع بالأراضى الباكستانية وفى كشمير الخاضعة لسيطرتها. وكانت الهند قد اتهمت باكستان بالضلوع فى الهجوم، فيما نفت إسلام آباد تورطها وطالبت بتحقيق دولى، معتبرة أن الاتهامات جزء من حملة تضليل منظمة تهدف إلى تصعيد التوتر بين البلدين. لم يتأخر رد باكستان، إذ أعلنت إسقاط 5 مقاتلات هندية وطائرة مسيرة، وقصفت عدة مواقع عسكرية داخل كشمير الهندية، مما أدى إلى تصاعد الاشتباكات وسقوط ضحايا من الجانبين. ووفق إحصاءات رسمية، قُتل 31 شخصًا فى باكستان وأُصيب 57، فيما سقط 12 قتيلًا و48 جريحًا فى الجانب الهندى، مما يعكس حدة المواجهات التى اندلعت بين البلدين خلال الأيام الماضية. امتدت الاشتباكات العسكرية عبر خط وقف إطلاق النار، وشهدت مواجهات جوية عنيفة شاركت فيها أكثر من 70 طائرة هندية و30 باكستانية، فى تطور يُعد الأخطر منذ سنوات. واستخدمت باكستان لأول مرة صواريخ بى إل 15 جو- جو الصينية الصنع، وأعلنت تدمير كتيبة مشاة ومقرات هندية فى راجستان وكشمير، مما يشير إلى تطور نوعى فى المواجهات العسكرية. يرى المحللون أن الرد الباكستانى السريع عدل ميزان الردع، وأظهر جاهزية لمواجهة أوسع وتحول فى المعادلة العسكرية بين البلدين. ولا يزال الوضع متوترًا للغاية، مع استمرار الاشتباكات وتبادل الاتهامات. حيث أغلقت الهند 32 مطارًا فى شمال وغرب البلاد أمام الرحلات المدنية حتى 15 مايو. وفى خطوة تصعيدية، أعلنت الهند تعليق معاهدة مياه السند الموقعة عام 1960، والتى تنظم تقاسم مياه الأنهار بين البلدين. بدأت الهند تسريع تنفيذ مشاريع كهرومائية فى كشمير، مما أثار مخاوف باكستان من تأثيرات كارثية على الزراعة والإمدادات المائية. وفى ظل تصاعد التوتر بين الهندوباكستان عقب فتح بوابات السدود دون تنسيق واتهامات متبادلة بالتحريض والهجمات، تدخل المنطقة مرحلة حرجة تتطلب قراءة معمقة للسيناريوهات المتوقعة وانعكاساتها على المحيطين الإقليمى والعالمى، خاصة فى ظل بيئة جيوسياسية شديدة التقلب. اقرأ أيضًا | السعودية: تنفيذ حكم القتل لمواطن ارتكب جرائم ارهابية أولًا: السيناريوهات المحتملة للأزمة 1- تصعيد محدود: ويشمل استمرار الغارات الجوية والهجمات بالطائرات المسيّرة والصواريخ من الطرفين، دون انزلاق إلى حرب شاملة. قد يُستخدم لتسجيل مواقف سياسية داخلية أو إرسال رسائل ردعية دون كلفة استراتيجية عالية. قد ينتج عنها خسائر بشرية ومادية كبيرة. وشلل جزئى فى الاقتصاد والبنية التحتية. احتمالية هذا السيناريو عالية على المدى القصير. 2- حرب تقليدية شاملة: دخول قوات برية، قصف مدفعى، اجتياح محدود لكشمير، مع استخدام مكثف للطيران. تتسارع احتمالاتها مع غياب وساطة دولية فعالة وتصاعد الخطاب القومى فى البلدين. سيؤدى ذلك إلى خسائر بشرية واقتصادية ضخمة، وتهديد الاستقرار فى كامل جنوب آسيا. مع خطر امتداد الحرب إلى مناطق أخرى مثل البنجاب أو راجستان. احتمالية هذا السيناريو متوسطة، وتتوقف على فشل الجهود الدبلوماسية. 3- حرب المياه: استمرار الهند فى استخدام ملف السدود ونهر السند كسلاح سياسى وأداة ضغط ضمن استراتيجية طويلة المدى. يُتوقع أن يكون هذا الشكل من النزاع الأكثر استمرارًا وهدوءًا من الناحية العسكرية، لكنه بالغ التأثير استراتيجيًا. حيث يهدد الأمن المائى الباكستانى مما قد يؤدى إلى تحركات باكستانية دولية قانونية ودبلوماسية. احتمالية هذا السيناريو مرتفعة وتوازى الحرب العسكرية فى خطورتها طويلة الأمد. 4- حرب نووية محدودة أو شاملة: استخدام أحد الطرفين أو كليهما للأسلحة النووية التكتيكية أو الاستراتيجية. رغم ضآلة احتمال استخدام الأسلحة النووية، إلا أن وجودها فى العقيدة العسكرية للطرفين يفرض خطرًا كارثيًا حال فقدان السيطرة أو التصعيد المفاجئ. يؤدى إلى انهيار سياسى لأى نظام يتخذ قرار الإطلاق أولًا. يتطلب تدخلًا دوليًا فوريًا من القوى الكبرى «أمريكا، الصين، روسيا». احتمالية هذا السيناريو منخفضة جدًا، لكن الخطر قائم فى حال خروج الأمور عن السيطرة. 5- الاحتواء الدولى: تدخل قوى كبرى مثل الصين، الولاياتالمتحدة، تركيا، السعودية أو الإمارات قد يسهم فى تهدئة الموقف. هذا السيناريو هو الأكثر أملًا، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية مشتركة ووساطة فعالة. ينتج عنه وقف فورى لإطلاق النار، والعودة إلى طاولة المفاوضات بشأن كشمير والمياه، وتخفيف العقوبات المتبادلة وإعادة العلاقات التجارية تدريجيًا. احتمالية هذا السيناريو متوسطة إلى مرتفعة إذا استمر الضغط الدولى. ثانيًا: التأثير على منطقة الخليج 1- العمالة والتحويلات: دول الخليج تؤوى أكثر من 10 ملايين هندى وباكستانى، وأى نزاع سيؤثر على سوق العمل، والتحويلات المالية، والخدمات اللوجستية. 2- توازن دبلوماسى حرج: السعودية والإمارات تتمتعان بعلاقات وثيقة مع الهند، لكن لا يمكن تجاهل مكانة باكستان كحليف استراتيجى. قد تواجه دول الخليج ضغوطًا شعبية أو دينية للانحياز، ما يستوجب دبلوماسية متزنة وحيادية مدروسة. 3- مخاطر أمنية داخلية: إمكانية تصاعد التوترات بين أفراد الجاليات الهنديةوالباكستانية فى الخليج، خاصة فى أوقات الأزمات المفتوحة. ثالثًا: التأثير على الاقتصاد العالمى 1- النفط والطاقة: أى تدهور فى استقرار الهند سيؤثر على الطلب العالمى للطاقة. قد تواجه ممرات نقل النفط ضغطًا إذا تأثرت موانئ باكستان أو تصاعدت التوترات فى بحر العرب. 2- الأسواق العالمية: ستتفاعل الأسواق سريعًا مع أى تصعيد، مما سيؤدى إلى: ارتفاع أسعار الذهب والدولار. تراجع الثقة فى الأسواق الناشئة. تقلبات كبيرة فى بورصات آسيا وأمريكا. 3- سلاسل التوريد والتكنولوجيا: تعد الهند مركزًا عالميًا للخدمات التقنية، وانقطاعها سيؤثر على شركات كبرى فى أوروبا وأمريكا. كما أن اضطراب الموانئ الباكستانية قد يعرقل مشاريع الصين فى المنطقة مثل «الحزام والطريق». الأزمة الراهنة بين الهندوباكستان تتجاوز حدود الاشتباك التقليدى أو الخلاف الحدودي، فهى تُمثل نقطة تقاطع خطرة بين الأمن المائى، والسيادة الوطنية، والتنافس النووى، والعقائد الدينية. وفى ظل هشاشة النظام الدولى وتراجع قدرة المؤسسات العالمية على فرض حلول عادلة، تبدو هذه الأزمة كقنبلة موقوتة تهدد بنسف الاستقرار الإقليمى وتصدير الفوضى إلى الاقتصاد العالمى. من هنا تبرز منطقة الخليج ليس فقط كمراقب محايد، بل كطرف متأثر جوهريًا بأية تطورات، سواء عبر شراكاتها الاقتصادية أو من خلال ما تحتضنه من جاليات هائلة للطرفين. إن مستقبل المنطقة والعالم سيُحدد إلى حد بعيد بمدى قدرة اللاعبين الدوليين على كبح جماح هذا النزاع، وتحويله من حافة الهاوية إلى بوابة تفاهم جديد يُراعى المصالح ويدرأ الكوارث. فالتهدئة لم تعد خيارًا دبلوماسيًا فحسب، بل ضرورة وجودية لإنقاذ جنوب آسيا، وربما إنقاذ النظام الدولى برمته من اختبار لا يحتمل الفشل.