ليست كل الجراح تُرى بالعين، فبعضها يسكن الروح ويثقل النفس، ويختبئ خلف نظرات بريئة لا تعرف كيف تبوح. التحرش الجنسي بالأطفال ليس حادثًا عابرًا، بل جريمة تمس صميم الإنسانية، ووصمة أخلاقية يتواطأ في استمرارها صمت المجتمع وخوف الأسرة. إن الطفل لا يكذب.. لكنه أيضا لا يُصدّق.. أسوأ ما في جريمة التحرش بالأطفال أنها تقع غالبًا في الخفاء، بينما يُترك الطفل وحيدًا يتخبط في ألم لا يجد له اسماً. وعوضًا عن احتضان الضحية، تنقلب بعض الأسر والمجتمعات إلى ساحة محاكمة للطفل نفسه: لماذا لم تصرخ؟ لماذا لم تخبرنا؟ كيف سمحت بذلك؟ إن ثقافة العيب أقسى من الجريمة , ففي ظل ثقافة اجتماعية تخشى الفضيحة أكثر من خوفها من الجريمة، يُدفن الألم تحت مسمّيات مثل "الستر"، و"العيب"، و"سمعة العائلة". فتُكبل ألسنة الصغار، وتُترك أجسادهم فريسة لذئاب بشرية، تتكرر جرائمها في صمت، وسط مجتمع يفضّل أن يغلق عينيه. إن التربية الجنسية ليست ترفًا.. فمن حق الطفل أن يعرف أن جسده ملكه، وأن هناك حدودًا لا يُسمح لأحد بتجاوزها، مهما كانت صلة القرابة أو المحبة. علينا أن نبدأ مبكرًا – وبأسلوب بسيط وآمن – بتعليمه الفرق بين اللمسة الآمنة واللمسة المؤذية، وأن نقول له بثقة: "من حقك أن تقول لا". حين يُلام الطفل.. ينكسر مرتين.. فالأثر النفسي للتحرش لا ينتهي عند وقوعه، بل يتضاعف حين يُلام الضحية. يشعر الطفل بالخزي، وبالذنب، وقد يفقد ثقته في من حوله وفي نفسه، فيتسلل الاكتئاب والقلق، وتبدأ رحلة صامتة من الألم المزمن. من المتحرش؟ إنه دائمًا ليس غريبًا عن الضحية. حيث تشير الدراسات إلى أن نسبة كبيرة من حالات التحرش بالأطفال يرتكبها أشخاص من الدائرة القريبة: أقارب، جيران، أصدقاء للأسرة. وقد يكون الجاني نفسه عاش طفولة مُعنّفة أو مُهملة، فأعاد إنتاج الألم الذي تلقاه. نظرية التعلم الاجتماعي تفسر انحرافات السلوك بأنها نتيجة الملاحظة والتكرار، في بيئة تفتقر إلى التوجيه. ونظرية التعلق توضح أن الطفل الذي لم يتلقَ الحب والاهتمام قد يصبح هدفًا سهلاً، لأنه ببساطة يبحث عن دفء مفقود. أما نظرية الضغط والفرصة ترى أن غياب الرقابة، وتوفر الضحية، ووجود الدافع، تؤدي إلى وقوع الجريمة. الحل في التوعية وليس في الصمت.. الوقاية تبدأ من الوعي. نحتاج إلى قصص توعوية، وألعاب تعليمية، ومناهج دراسية تتناول الخصوصية الجسدية بأسلوب مناسب. والأهم أن نؤمن أن الحديث مع الطفل عن جسده لا يُفسده، بل يحميه. فالمجتمع مسئول , لا متهرب . إن حماية الطفل مسؤولية مشتركة , الأسرة، المدرسة، المؤسسات الدينية، الإعلام، والتشريع. نريد قوانين رادعة، ومؤسسات تستقبل بلاغات الأطفال دون أن تسألهم عن "الدليل"، بل تؤمن بوجعهم أولًا. فلنصغِ إلى الأطفال. لا تكسروا ظهورهم بتكذيبهم أو لومهم. كونوا السند، لا سبب السقوط. فالتحرش بالطفل جريمة، أما السكوت عنها... فخيانة.