طوبى لمن أقنعنى بعدم تكرار التجربة، وبألا أرشح نفسى مجددًا فى أية انتخابات، حتى لو كانت داخل بيتى! كنت حتى سن الخمسين رجلاً مسالماً، يعتبر السياسة رجسًا من عمل الشيطان، وبُعبعًا لا يجب الاقتراب منه أو تصويره. كنت مسالمًا بالمعنى الحرفى للكلمة، من البيت للجرنان ومن الجرنان للبيت. لا مقهى سياسى ولا منتديات ولا حتى دردشة على الماسينجر أو على الواتس آب. وعلى الرغم من الصلة الوثيقة بين الصحافة والسياسة إلا إننى أكتفيت بممارسة الصحافة بشقها الذى لا يقترب من السياسة بأى شكل من الأشكال، أى من موقع المتفرجين الذين لا ينفعلون ولا يتفاعلون مع أى حدث سياسي. الدنيا براح والقضايا غير السياسية على قفا من يشيل، فلماذا أضع نفسى فى ذلك الكورنر الضيق؟!. طبعًا هذه ليست صفات أفتخر بها لكنى كنت بها راضياً عن نفسى تمام الرضا. كان الاستثناء الوحيد الذى أمارس فيه السياسة هو فى انتخابات نقابة الصحفيين التى تتم كل عامين. فكنت أنتظرها باشتياق حقيقي. كيف لا وهى فرصة لحضور ندوات المرشحين للنقيب و لمجلس النقابة من مختلف التيارات السياسية والاستماع إليهم مباشرة. فأنصت مستمتعًا للراحلين جلال الحمامصى وصلاح عيسى وعادل حسين وإبراهيم نافع ومكرم محمد أحمد وكامل الزهيرى وأمينة شفيق اطال الله عمرها. لكن يبدو أن من صفات الصحفى - أى صحفى - أن يمر فى لحظة ما بلحظة ضعف تجعله فجأة وبدون مقدمات مهمومًا بالقضايا السياسية، للدرجة التى تدفعه، إذا كان مثلى من مؤسسى حزب المتفرجين إلى التهور فى لحظة ما، ليقدم نفسه لزملائه الصحفيين طالبًا ثقتهم فى أن يمثلهم فى مجلس النقابة، سواء على مقعد النقيب أو فى مجلس النقابة إن كان أقل تهورًا. وهكذا وجدت نفسى عندما بلغت الخمسين مرشحًا فى عام 2013 لعضوية مجلس النقابة، التى أعتز بالانتماء لها، يا للهول يا رجل!!، ماذا فعلت بنفسك؟!.. تلعثمت فى إجابة هذا السؤال الذى واجهنى به وقتها صديق مخلص، حيث أعقبه قائلاً: عهدتك دائمًا رجلًا طيبًا، فما الذى دفعك لأن تضع نفسك فى هذا المأزق المهول؟!، فقلت بعد أن هرشت فى شعرى خجلاً: طقت فى دماغى فجأة، وقررت أن أجرب نفسي، فشد صديقى على يدي، قائلاً: الله معك وبالتوفيق.. كانت كلمات رثاء وتعزية أكثر منها تشجيعاً وتهنئة. وعلى طريقة زينات صدقى فى فيلم إسماعيل ياسين فى مستشفى المجانين، كان كل من ألقاه طالباً لصوته ودعمه يقول لي:»أؤكد لسيادتك يا معلم إتش إن طِعْمَة لك ومش لحد تاني، هو إحنا ممكن نلاقى زيك فين علشان نديله أصواتنا؟! ياريت يبقى المجلس القادم كله زيك، يووه ياندامة»، هكذا كنت أسمع الزملاء يعدون كل من يطلب صوتهم. نحن الصحفيين مجاملون بطبعنا، ونتعامل مع المرشح ونشيد بحسن خلقه، كما لو كان يتقدم لخطبة واحدة من بناتنا، وليس لطلب مقعد فى مجلس نقابة مطلوب منه برنامجًا واضحًا لخدمة الصحافة التى تعانى أشد المعاناة، ومثقلة بكثير من الهموم التى تحتاج حلولاً. لذا تجد المرشح يهيم شوقًا للحظة التتويج التى سيحصد فيها أعلى الأصوات، إلا من احترف الانتخابات، وسعى لها سعيها، ويعرف من وجوه الناخبين يوم التصويت إذا كان من الفائزين أم لا. طبعًا لست بحاجة للقول أن طِعْمَة كانت من نصيب زملاء آخرين، وهو أمر طبيعي، فليس من المنطق أن يفوز بها كل من طلبوا القرب منها، وتبقى تجربة ثرية استفدت منها كثيرًا. الأصعب من أن تكون مرشحًا تقوم بالدعاية لنفسك، هو أن تكون ممن يصطحبون المرشحين من الأصدقاء خلال جولاتهم الدعائية، حيث يستقبلك الزملاء الناخبون من أعضاء الجمعية العمومية أمام المرشح، بفيض من عبارات المجاملة لك قبل المرشح، فيقولون له: يكفى أنك جئت لنا مع فلان الغالى علينا، فأبشر يارجل، ويذهب الرجل مصدقاً ما يسمعه، لتجد نفسك فى حرج شديد، بعد ظهور النتيجة. يبقى أن يوم انتخابات نقابة الصحفيين من أحب الأيام إلى قلبي، حيث ألتقى خلاله بكثير من الأعزاء الذين تحول ظروف العمل أن ألتقيهم طيلة عامين، فى عيد حقيقى نجتمع فيه لنقضى ساعات رائعة من الديمقراطية، نهنئ بعدها الجميع، سواء ممن وقع عليهم الاختيار، أو من لم يحالفهم الحظ، فقد فازت الصحافة ووحدة الصحفيين، وهذا هو الأهم. مع تمنياتى بالتوفيق لكل الزملاء، الذين تحلوا بالشجاعة الكافية لأن يطرحوا أنفسهم لنيل شرف تمثيلنا فى إدارة النقابة، وطوبى لمن أقنعنى بعدم تكرار التجربة، وبألا أرشح نفسى مجددًا فى أية انتخابات، حتى لو كانت داخل بيتى!