كأنك تعبر بوابة عبر الزمن، فتجد نفسك على ضفاف فكرة بدأت قبل أكثر من 38 قرنًا، حين قرر الملك سنوسرت الثالث أن يصل بين نهر النيل والبحر الأحمر، فشق أول قناة مائية عرفت طريقها إلى قلب الصحراء، وبين حلم البدايات وعظمة التنفيذ، تتجسد حكاية قناة السويس فى جنبات متحف السويس القومى، حيث لا تُعرض القطع الأثرية على الرفوف فحسب، بل تُروى الحكايات، وتُستعاد الفصول المنسية من دفتر التاريخ. لا تقع كل هذه القطع فى المتحف لمجرد عرضها، بل تم انتقاؤها بعناية لتشكل خيطًا سرديًا متصلاً يحكى قصة القناة منذ سيزوستريس، وحتى الخديو إسماعيل، الذى شهد العالم على افتتاح مشروع القرن فى زمانه. اقرأ أيضًا | محافظ سوهاج يستقبل نجيب ساويرس لمناقشة مشروع «دار وسلامة» مديرة المتحف، دينا السيد، تؤكد أن هذه الآثار لم تخرج كلها من أرض السويس، بل جاءت من متاحف متفرقة، لكن ما يوحدها هو ارتباطها الوثيق بقناة السويس، فهى ليست مجرد مقتنيات، بل محطات على خط زمنى واضح المعالم، يعرض كيف بدأت الفكرة، ومن أين، وعلى يد من. المتحف لا ينام، أبوابه تظل مفتوحة طوال العام، فى الأعياد والعطل، وفى نهايات الأسبوع. طلاب المدارس يدخلون مجانًا، وطلاب كليات الآثار والسياحة والفنادق يزورونه دون رسوم، بل إن بعضهم يعمل متطوعًا فى تقديم الجولات الإرشادية، ويشارك فى ورش التعلم والأنشطة، ليجعل من زيارته للمتحف خبرة حية لا تُنسى. وفى قلب القاعة، يقف تمثال سنوسرت الثالث شامخًا، كأنه لا يزال يرقب قناة حلم بها ذات يوم، واستحالت حقيقة على يد من جاءوا بعده، يروى التمثال بداية الحكاية، أما بقيتها، فتُسرد على جدران القاعات، حيث تسافر المعروضات بك إلى عصر التجارة مع بلاد بونت، وحملات تصدير واستيراد تمتد من النيل إلى أعماق إفريقيا.. قطع كثيرة تحكى عن تلك الحقبة: مجسمات مراكب، برديات من ميناء وادى الجرف، أدوات استخدمها المصريون القدماء فى رحلاتهم البحرية، وكلها خضعت للصيانة والترميم، لتظل شاهدة على مجد لم تبهته السنون. وكان آخر الوافدين إلى المتحف قطعة من نوع خاص، نموذج لفنار أُهدى للملك فاروق عام 1946، وصل إلى المتحف قادمًا من أحد القصور الرئاسية، ليعرض لأول مرة تزامنًا مع انطلاق مهرجان الموسيقى والغناء بالسويس. لكن رغم كل هذا الزخم، لا يزال المتحف بعيدًا عن خريطة السياحة العالمية، فموقعه فى مدينة بورتوفيق، على مقربة من الميناء، لم يشفع له أن يُدرج ضمن مسارات رحلات السفن السياحية، معظم الوفود تمر عبر ميناء السخنة، وتغادر إلى القاهرة مباشرة، متجاهلة ما فى السويس من كنوز. هناك محاولات جادة لإحياء الرحلات إلى بورتوفيق، لتشمل زيارات إلى المتحف، وقصر محمد على، وبيت المساجيرى، وممشى بورتوفيق الجديد، الذى يفتح أفقًا سياحيًا رائعًا بإطلالته الساحرة على خليج السويس.. هكذا يظل متحف السويس القومى شاهدًا على القصة الكبرى التى غيّرت خريطة العالم، فى انتظار أن يستعيد مكانته على خريطة السياحة، كما يستحق.