خورخى اجناثيو دى لا توري ترجمة: مها عبد الرءوف جرنيكا مدينة اسبانية دمرتها قنابل الطائرات الحربية الألمانية خلال الحقبة النازية، و«جرنيكا الفلسطينية» هو الوصف الذى اختاره الصحفى والكاتب الاسبانى ميكل ايستاران لوصف غزة فى كتابه الجديد «حكايات من غزة: الحياة فى ظل الحروب»، والذى يتساءل فيه عما إذا كانت غزة سيظل لها وجود بعد ما تتعرض له من تطهير عرقى وتهجير لأكبر عدد من سكانها ومحاولة فرض واقع جديد مختلف تماما عليها. ايتساران الذى عمل مراسلا صحفيا وقضى نحو 20 عاما من مسيرته المهنية فى الشرق الأوسط ، يأسف كثيرا لأن كتابه عن غزة لن يكون مماثلا لكتابه «القدس..المقدسة والأسيرة» الذى تنقل فيه من حى لحى وتحدث مع السكان. عن ذلك يقول: «التجول فى غزة من بيت حانون إلى رفح والمرور بالمقاهى والفنادق والتحدث مع المسئولين المحليين والسكان هى أمور افتقدها كثيرا وكنت أتمنى أن أتناولها فى كتابى ولكنها للأسف لم تعد ممكنة الآن». ويضيف الكاتب أن «حكايات من غزة « هو كتاب شخصى تماما يتناول وجهة نظر شخصية مبنية على عشرين عاما قضاها مراسلا فى المنطقة، ويحاول فيه أن يكون صادقا تماما إزاء وضع مختل وغير متوازن بشكل عميق. وفقًا لأيستاران، فإن الوضع الحالى فى غزة، حيث تمنع إسرائيل دخول الصحفيين الأجانب، يمنعه من «إضفاء الطابع الإنسانى على المعلومات. فالهدف هو التحكم فى الرواية بأفضل طريقة ممكنة».. ويتطرق الصحفى الاسبانى إلى «أقصى أشكال الرقابة» التى تمارسها إسرائيل، التى تمنع دخول الصحفيين الدوليين إلى غزة وتقتل الصحفيين الفلسطينيين. ويقول إن الصحفيين الأجانب يعتمدون فى تقاريرهم على الإحصاءات والأرقام، وهى أخبار «تفتقر إلى الإحساس الذى تشعر به عندما تكون هناك داخل الميدان»، لأنه من الخارج يصعب جدا أن تضع نفسك مكان الفلسطينيين، الذين يعيشون منذ عام ونصف تحت «انتقام» رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. الداعم الأكبر لأيستاران فى غزة هو «قائد»، صديقه والمراسل الميدانى الذى يتعاون معه فى القطاع منذ عشرين عامًا، والذى يرسل له كل صباح رسالة، وهو يشعر بالخوف من ألا يتلقى ردا يوما ما. ويقول إن «الكتاب مهدى إليه». فقصة «قائد» هى قصة كثير من سكان غزة، الذين «لا يرون أى بصيص أمل فى نهاية النفق»، ذلك أنه لا فرق عندهم بين الموت أو الاستمرار فى الحياة كما هى الآن. وهو حزين جدا لأنه أنجب أولادا وجلبهم إلى هذا العالم ومنحهم هذه الحياة». وقد أنشا الصحفى الاسبانى مع صديقه وزميله الفلسطيني، مشروعا يُدعى «قائمة طعام غزة»، يقوم على مشاركة صورة يومية لوجبة الطعام التى تُعدها «أمل» زوجة «قائد» للعائلة، فى الوقت الذى تستخدم فيه إسرائيل الجوع كسلاح فى الحرب على القطاع. وقد حاز المشروع على جائزة «أورتجا إى جاسيت 2025» لأفضل تغطية متعددة الوسائط. ويعتقد أيستاران أن هذه المبادرة تحمل رسالة قوية لكنها «بسيطة بشكل صادم»، ومن السهل جدا التفاعل معها، لأنك لا تحتاج لفهم الجغرافيا السياسية لتدرك معنى شيء مألوف جدا مثل طعام إنسان يُوثق يوميا على مدار شهور. التى يعمل لصالحها أيستاران أجرت معه هذا الحوار صحيفة ABC ... لماذا لا يوجد مكان يشبه غزة؟ بسبب الظروف المرتبطة بالحصار.. لدى عشرون عاما من العمل فى تغطية الصراعات، وقمت بتغطية جميع الأحداث فى الشرق الأوسط، بل وحتى حرب جورجيا أو الغزو الروسى لأوكرانيا، لكن لم أرَ فى أى مكان حصارا بهذا الطول. الوضع فى غزة استثنائى لهذا السبب. لقد كان دخول غزة صعبا للغاية من قبل، أما الآن فلم يعد يُسمح لنا بذلك إطلاقا. فى الحروب السابقة كان يمكننى مساعدة الأصدقاء بالمال أو بمحاولة إخراج شخص ما، أما فى هذه الحرب فالأمر غير ممكن على الإطلاق. كيف تتم تغطية حرب مثل حرب غزة؟ كمحترف يتوقف لحظة للتفكير الأمر معقد بشكل خاص، ذلك أنهم يطبقون أقصى درجات الرقابة.. إنهم لا يسمحون لنا بالعمل، ويجرى اغتيال زملائنا الصحفيين ولا يحدث شيء. من المحبط جدا تغطية الأمر عن بُعد، ونحن خاضعون لدعاية شرسة من جانب إسرائيل، وكذلك من بعض وسائل الإعلام القريبة من الجهاز الدعائى لحماس.. الطريقة الوحيدة للعمل هى من خلال الاتصال المباشر مع أهالى غزة. نحاول الاعتماد على المصادر المباشرة التى تعطيك رؤية محدودة عن حياة كل عائلة، لكن فى الوقت نفسه، ومن خلال هذه الحالات الخاصة الصغيرة، يمكنك تكوين فكرة عن الصورة العامة. فى كتابك تتحدث كثيرا عن «قائد» نعم.. فأنا أحظى بعلاقة شخصية مع قائد حماد منذ عشرين عاما -يبتسم- إنه غزاوى من مخيم جباليا للاجئين، يبلغ 54 عاما وتقيم عائلته فى مالاجا ويتحدث الإسبانية بطلاقة.. لقد ازدهرت العلاقة بيننا كثيرا خلال الثمان سنوات التى عشتها فى القدس وكنت أزور فيها غزة كثيرا وشاهدته يؤسس أسرة ويربى أبناءه. وقد غطينا معا العدوان الاسرائيلى فى أعوام 2008 و2012 و2014. بالإضافة لذلك، فإنه منذ وصول حماس للحكم فى 2007 أصبح ينبغى على أى مراسل أن يكون له ما يسمى «منسقا أمنيا» أو راع يسمح لك بدخول القطاع.. وكان قائد راعى ودليل ومترجم جميع الصحفيين الاسبان فى غزة. ومنذ بدء الحرب فى السابع من أكتوبر فإننى أتحدث معه كل يوم وهو مصدرى الرئيسى للمعلومات والرابط المباشر لى مع ما يحدث هناك، وقد أنشأنا معها العديد من المشروعات، خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي. من بين هذه المشروعات «قائمة طعام غزة».. حدثنا عنه «قائمة طعام غزة» هى تظهر أنه فى القرن الحادى والعشرين فإن الجوع يستخدم كسلاح، وهو سلاح فعال للغاية. المشروع يقوم على سلسلة من الصور التى أطلبها من قائد للطعام الذى تعده زوجته أمل كل يوم وخاصة عندما قررت إسرائيل تشديد الحصار على نحو صارم للغاية.. لقد بدأنا فى فبراير 2024 أى بعد نحو خمسة أشهر من بداية الحرب وتوقفنا فى 19 يناير مع بدء اتفاق وقف إطلاق النار لكن للأسف كان علينا أن نستأنف عندما انتهكت إسرائيل الهدنة بشكل أحادى واستأنفت القصف. بالإضافة إلى التجويع فإن إسرائيل تستخدم سلاحا آخر هو التهجير.. كيف تعايشت أسرة قائد مع هذا الوضع؟ فى الحقيقة هم تمسكوا جدا بالبقاء فى الشمال ولم يغادروا عندما أمرت إسرائيل فى الأسابيع الأولى من الحرب بالنزوح نحو الجنوب.. خلال أول 15 شهرا، وهى فترة كانت قاسية للغاية، تنقلوا بين 16 أو 17 منزلا. وهم الآن فى بيت آخر، سيكون رقم 19، فى مخيم لاجئين فى مدينة غزة. إن التهجير القسرى أصبح واقعا مستمرا، مع إضافة مريرة: لا يوجد مكان آمن، لأنه لا يوجد أى مكان يتوفر فيه الحد الأدنى من شروط النظافة أو الغذاء. هل فشل القانون الدولى فى غزة؟ بالتأكيد فشل فشلا ذريعا لقد رأينا كيف زار نتنياهو المجر ولم يحدث أى شيء فى تجاهل تام للقانون الدولي. إن الجهة الدولية الوحيدة التى يمكن أن تضع نهاية لما يحدث هى الولاياتالمتحدة ولكننا نعلم من يحكم هناك ونعلم أنه لن يحدث أى تغيير. بالنسبة لى فإن إنشاء منتجع «ريفييرا غزة» أمر أقرب للتحقق من تطبيق القانون الدولي. لقد فقدت الأمل تماما فى القانون الدولى وفى الاتحاد الأوروبي إن إفلات إسرائيل من العقاب مطلق، ولهذا السبب بالتحديد لا يُسمح لنا بالدخول، لأنهم لا يريدون أى شهود. هل قمنا بتطبيع ما هو غير طبيعي؟ بالتأكيد. وهذا هو النجاح الكبير لنتنياهو، لقد كنت أعتقد أن الهجوم الاسرائيلى فى عام 2014 -والذى كان الأشد قسوة ب2500 قتيل فى 50 يوما، سيكون نقطة تحول.. الآن يموت 2500 شخص فى أسبوع دون أن يحدث ذلك أية ضجة. فى كتابك تقول إن العملية العسكرية الاسرائيلية فى غزة عام 2014 كانت نقطة تحول شخصية بالنسبة لك.. لماذا؟ خلال تغطية هذه العملية كان هناك تدفقا كبيرا للأخبار كل يوم .. كان الأمر مرهقا جدا بسبب عدد القتلى، وخصوصا من المدنيين. لم نتوقف عن رؤية أطفال يدخلون إلى المستشفيات طول الوقت. كانت مجزرة. تخيّل الآن، وقد وصل عدد القتلى إلى 50 ألفًا. هل يمكن أن نثق فى حصيلة الضحايا التى تصدرها وزارة الصحة فى غزة التابعة لحماس؟ إننا لن نعرف أبدا حصيلة الضحايا لأنهم لا يسمحون لنا بالدخول والقيام بالتحقيق المستقل، وهو الأمر الذى ينبغى أن يحدث. إذا كانوا يقولون إن حماس تكذب فليدعونا ندخل أما إذا لم يفعلوا، فربما لأن تلك الأرقام ليست كاذبة. بالإضافة إلى ذلك فإن اليونيسيف ومنظمات أممية آخرى تصدر أرقاما مماثلة. المسألة هنا ليست حربا، بل انتقام. انتقام تشنه إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، بدلا من اختيار وسيلة انتقائية أكثر دقة كما فعلوا مع حزب الله فى لبنان حين استهدفوا قياداته، لكن ما يحدث فى غزة هو تدمير شامل بغرض توجيه رسالة قاسية. كيف تتذكر السابع من أكتوبر 2023؟ لقد كنت حريصا جدا ألا يحتكر ذلك التاريخ صفحات الكتاب، على الرغم من أنه كان نقطة تحول، لقد عشت ذلك اليوم ولازلت أعيشه بدهشة كبيرة لا أستطيع تفسيرها، ولذلك يغضبنى كثيرا أن نتنياهو لا يسمح بالتحقيق فى هذه الأحداث. هل ترى أنه من الغريب أن تتعرض إسرائيل لمثل هذا الهجوم؟ لقد كانت الثقة فى النظام الأمنى كبيرة لدرجة أنه أقاموا مهرجانا لموسيقى التكنو على أبواب غزة فكيف أنهار النظام الأمنى على هذا النحو؟ هذا بالإضافة إلى أن المنطقة كلها كانت مؤمنة عسكريا برا وجوا وبحرا، والأدهى من ذلك أن المخابئ لديهم مصممة لتكون ملاجئ من الصواريخ، لكنها غير مجهزة للتصدى لهجمات برية. لقد كان عناصر حماس يتوقعون مقاومة شديدة وأنهم سيموتون ولكنهم فوجئوا بهذا الوضع. هل تعتقد أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية كرد على ما حدث؟ هناك أشخاص مؤهلون أكثر منى للاجابة عن ذلك، وهناك تحقيق يجرى ونأمل فى أن تظهر نتائجه سريعا. الحقيقة أن هناك وسائل عديدة لإبادة شعب.. فهناك من يفعل ذلك بأفران الغاز وهناك من يختار السواطير وآخرون يفعلون ذلك بالتجويع والتهجير القسري. ولكن علينا أن ننتظر نتائج التحقيق. فى أى صراع علينا أولا أن ننظر إلى الضحايا من الجانبين ولكن إذا لم يكن هناك اعتراف بهم فنحن بعيدون جدا عن الحل. أحد المحاور المهمة التى تبرزها فى الكتاب هو عائلتك.. كيف يتعايشون مع عملك فى مناطق الصراع؟ إننا نعيش كفريق وننتقل من مكان لآخر، لقد اعتادوا أن نذهب فى عطلة مصطحبين الميكرفونات والحوامل والكمبيوتر، إننا جميعا نعيش الصحافة فى المنزل، لقد قضيت عشر سنوات أسافر بمفردى وأعيش حياة مزدوجة ولكن الآن أصبح لدى أسرة، وأصبحت أكثر هدوءا حتى أننى تمكنت من كتابة 4 كتب وهو أمر لم أكن أتصور حدوثه لأننى لم يكن لدى الوقت لذلك.