كيف تستنزفنى وتفتك برأسى فى كل ليلة وتحيلنى من إنسان لوحش ومن مخلوق وديع إلى شرير! صديقى واسع جدا رأسه يمكنه أن يجد به مكان لكل شيء ولا أفهم كيف يفعلها، منشغل دائما بأهم القضايا - فى رأيه- بأسعار العملات الأجنبية وأسهم البورصات العالمية وصعود وهبوط برميل النفط والمعادن وأرباح شركات التكنولوجيا وحصة الضرائب على المواطن فى أمريكا فى كاليفورنيا، وبالحروب والمعارك والأسلحة النووية والقنابل الذرية والمدمرات والفرقاطات وحاملات الطائرات. أما النوائب والنوائح الكبرى فيراها صغيرة لا بحكم حجمها ولكن بفعل حدوثها وتكرارها واعتياد هذا التكرار فصارت بالنسبة له طبيعية ولا تستأهل أكثر من مصمصة الشفايف والهمهمة وحبذا اذا كانت غير مفهومة فتبدو عميقة أكثر وتنم عن رأس ممتلئة بالأفكار والأخبار. يقول صديقى إننى صرت أتشارك النقاش فى أحداث صغيرة فقط وأتجاهل الأشياء الكبيرة، ولا أفهم ماذا يقصد بالأشياء الصغيرة أو حتى الكبيرة فكلاهما مسألة نسبية جدا ولا يمكن لأحد تحديد مطلق لأى شيء، الصغيرة لديك كبيرة عندى والعكس صحيح أحيانًا، يصر هو على أنها إحدى أمارات الانشغال أو ربما أعراض الزهايمر مبكرة ويضحك. هو لا يرانى حين تعصف بى تلك المسائل التى سماها صغيرة، لذا خصصت لها المساء وحدي، أما المسائل الكبيرة فتركتها مشاعا للناس ولنقتلها - فيما بعد- بحثا ولنتشاور بشأنها فى كل الأوقات. ولا يفهم كيف تستنزفنى وتفتك برأسى فى كل ليلة وتحيلنى من إنسان لوحش ومن مخلوق وديع إلى شرير متسلسل غارق فى ما لا يتوجب. يرى صديقى أن ملابس الفنان الفاضحة قضية كبيرة، وزعاق الفنانة شيء فظ والتهديد بين أمريكا والصين جلل، والحرب فى روسيا وأوكرانيا شأن عظيم وتغير حرارة الكوكب وهطول المطر فى غير مواسمه أعجوبة وكذا وكذا، وهذه مسائله الكبيرة، أما أنا فليس لى بهذا الكلام كله لا نفع ولا ضرر ولم أعد أهتم له، ماذا يفيدنى إذا فكرت كل هذه الأفكار وأعطيتها نفس الحجم؟!، لا شيء، صحيح بالقطع لا جدوى من ذلك كله، كما أن الحاجات الكبرى بحق لما تصير مشاعًا للعامة تفقد حجمها الحقيقى وتكبر أمامها - عندي- الصغير منها بل والدقيق أيضًا. صديقى يرى السياسة شأنا عظيما والاقتصاد مهما والتجارة والصناعة أهم والفن رسالة والدين فرض كفاية و«التريند» فرض عين. أما أنا فأقرأ العناوين وأكتفي، وأقلب فى الصحف من الخلف إلى الأمام وظنى أن خلفية الصفحة أهم من مقدمتها ذلك أننا نضع المهم دائمًا داخل «المتون» فى «الحشو» لا فى الأمام، وإذا صادفتنا قضية مهمة فعلا نجد لها ألف مقدمة أو لا ونصيغها فى مئات الجمل ثم نأتى بالمفيد فى المنتصف، ماذا.. أمر مضحك؟، بالطبع فأغلب أحوالنا تدعو للسخرية. يقول صديقى إننى بت قليل الكلام والظهور وبأن روحى مجهدة وهى كذلك، يخبرنى عن مرض ابنته وشدة ألمها وأنا أتألم معه ويقول إنها من أشيائه الصغيرة، أما أنا فأقول إنها من الكبيرات. يتهمنى صاحبى بتجاهل قضايا مصيرية وأنا أمعن فى إسقاطها عمدا من حساباتي، يلومنى على قدرتى الفجة فى إغلاق الهاتف والاستمتاع باللاشيء، أما أنا فأرى كل أشيائه الكبيرة بلا جدوى حقيقية عندي، وأرى الأشياء الصغيرة جدا هى الحقيقية فقط التى تمسنى بشكل مباشر لا غير أما ما هو أكبر من ذلك فهى مسائل كبيرة جدا ولا أعرف كيف أفكر فيها حتى.