لا إراديًا نضحك جدًا لما نسمع بأن شيئًا له ما له، وعليه ما عليه وأنا أيضًا تضحكنى هذه العبارة صديقى العزيز صادفته أخيرًا بعدما غاب طويلًا، فوجدته صامتًا سألته عما ألم به من وجع الحياة وهمها، فقال: دعنى وشأني، أنا منطفئ جدًا، ولا أريد الاستمرار ولا أقوى على مغادرة فقاعتي، أما قدمى فلم تعد تحملنى وعقلى لا يريد المقاومة وذهنى شَتّ منى وعقلى ذهب وقلبى كأن وخزًا ينخره وينفذ من الجهة المقابلة حتى عينى لم أعد أتحكم بحركة جفنها، فصارت تنغلق وتنفتح دون تدخل مني، فابتعد عنى ولا تقترب هذه أعراض تصيب بالعدوى وربما تنتقل إليك وأنت لا تزال فى زهوك وريعانك. رمقته بحب ولم أتأس أو أتأسف لحاله وجالسته، هو قال ما به وأنا افهمه وكفى ولا داعى من دخول فى تفاصيل، الرجل موجوع كأنه لم يتوجع من قبل، نفسيته مأزومة ويشعر بأن لا أحد حوله ولا صادق بجواره وبأن العالم الذى يجرى بلا شغف أو شرف. أستعيد مع كل حرف قاله ولم يقله شهورا طويلة مضت علىّ بنفس الحال قبل نحو ثلاث سنوات، كنت فاقدًا لكل طعم أتذوقه وكل الروائح عندى سواء هى هواء مكتوم، ولا أثق فى شيء حولى سوى ضحكات الأطفال ونظرات العجائز كأنها هى الوحيدة الصادقة والمنجية من ذلك كله. سمعت أثناءها رجلًا طيبًا يقول إذا صارعتك الدنيا وتكالبت عليك وهزمتك فاختر من أسمائه ما شئت وناده به، قلبت الحكاية فى رأسى ورأيت أن لا ضرر منها فجربت تطبيقها، أنتظر المساء ثم يحل الليل فى زمهرير الشتاء، فأتلحف بأثقل ما أملك من معاطف وأنزل الى الشارع أطوف قدر ما استطعت وأنادي: يا نور يا نور يا نور، ثم أرفع رأسى اليه فى السماء واناديه بحس عالٍ -الحمد لله ان الناس قد ناموا- أعلم أنك تسمعنى وتعرف ما يأكل قلبى ويحرقه وأنت النور، نورنى يا الله. لم أصارح صديقى بهذا ولم أخفه عنه وسمعته فقط دون تدخل وانتظرت حتى يفرغ، ثم ضحكت من قلبى وأخذت أذكره بما مضى بيننا قبل عشرين عامًا، كُنا صغارًا جدًا كأننا فروخ بالكاد تريد أن تكسر قشرتها لتخرج وتتحرر إلى عالم واسع ننخرط فيه ونكبر ونكبر ثم نلمع ونلمع ثم ننصهر به ونصير جزءًا منه، ذكرته لما كان يعلمنى ماذا أكتب وكيف أفكر ومتى أقول وفى أى حين أصمت. أوف.. أخيرًا ابتسم الرجل وضحك من قلبه واستعاد الذكريات، أرهقنى حتى فعلها كما أرهقه الناس والواقع وأخذ منه جزء من روحه. لا إراديًا نضحك جدًا لما نسمع بأن شيئًا له ما له، وعليه ما عليه وأنا أيضًا تضحكنى هذه العبارة ذلك انها صارت بذاتها تؤشر لشخص أو مرحلة أو شيء بعينه نود لو أننا نتغاضى عن زلاته ونحسبه فى أحسن الحالات مع الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، والجيد يغفر السيئ وهكذا. أما أنا فتلفتنى عبارة أحبها أكثر، تقول: «لها ما بعدها»، والمغزى منها ان كل الشئون لها تبعاتها، ولا تكون بذاتها نهاية، والمسألة هنا هى كيف تستعد «لما بعدها»، أيًا ما كان، وهذا فى وعيى ينطبق على كل الأشياء فى كل القضايا. غادرت صديقى كما أغادر عيادة طبيبى النفسي، كأننى لتوى بدلت جلدي، وتخلصت من قروح وندوب جديدة كادت تتكون وتتلون على سفحي، وقام هو واحتضننى بقوة كأننى عائد لتوى من أرض متنازع عليها، وعدنى بأن يتذكرنى فى دعائه وعاهدته فى قلبى بأن أسأل الله له نور يفيض عليه ويغمر قلبه ويعيده إلى الحياة مرة أخرى.