لم تعد ظاهرة هجرة الأطباء المصريين للخارج مجرد أرقام صامتة، بل تحولت إلى ناقوس خطر يدق أبواب القطاع الصحي في مصر، وسط تساؤلات عن مستقبل الرعاية الصحية للمواطنين، ومدى قدرة المستشفيات على مواجهة النقص المستمر في الكفاءات الطبية، مع اتجاه أصحاب البالطو الأبيض للعمل خارج مصر. ◄ راتب الطبيب فى مصر لا يتجاوز 2.5 % من أجره بأي دولة أخرى ◄ زيادة أعداد الخريجين تخفف حدة الأزمة على المدى البعيد كشف الدكتور أسامة عبد الحى، نقيب الأطباء، هجرة نحو 7000 طبيب شاب للعمل بالخارج خلال عام واحد فقط، مشيرًا إلى أن النقابة تواجه أزمة متفاقمة فى هذا الملف مع مرور الوقت. وتتزايد المخاوف أيضا من تداعيات هذه الظاهرة على النظام الصحى، خاصة بعد إعلان جامعة الإسكندرية عن خلو 117 وظيفة من الوظائف الإكلينيكية للأطباء المقيمين بمستشفيات الجامعة ومعهد البحوث الطبية، وهو ما يعكس حجم العجز الحقيقى فى العنصر البشرى داخل المؤسسات الطبية الكبرى. فيما صرح الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، بأنه لا أزمة، مستندًا إلى وجود عدد كبير من خريجى كليات الطب سنويًا يصل عددهم ل29 ألف طبيب، وأن هجرة الأطباء تعود بالنفع على الدولة المصرية لاكتساب خبرات وتحقيق عائد مادى واقتصادى. ◄ جرس إنذار من جانبه، وصف الدكتور جمال شعبان، أستاذ القلب والأوعية الدموية ومدير معهد القلب الأسبق، أزمة هجرة الأطباء بأنها جرس إنذار حقيقى يجب أن يوقظ الجميع، مشيرًا إلى أن القضية أعمق بكثير من كونها مجرد مشكلة فى الرواتب، واستشهد بتقرير سابق نشرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، تحدث عن هجرة الأطباء المصريين وفسر السبب الرئيسى بكون راتب الطبيب فى مصر لا يتجاوز 2.5% من راتبه فى أى دولة أخرى، وأوضح أن هناك عجزًا واضحًا فى عدد من التخصصات الطبية الحيوية مثل التخدير، والأشعة، والحالات الحرجة، فضلاً عن ارتفاع غير مسبوق فى معدلات استقالة الأطباء من عملهم داخل المستشفيات الحكومية. وأشار إلى أن معدلات الهجرة فى صفوف الأطباء أصبحت هى الأعلى فى تاريخ مهنة الطب فى مصر، لذا يجب العمل على وضع حلول عملية قابلة للتنفيذ، وذلك من خلال إعادة النظر فى أجور الأطباء بشكل يضمن لهم حياة كريمة، والعمل على تحسين بيئة العمل داخل المؤسسات الطبية، وتقليص عدد ساعات العمل بما يحقق التوازن المهنى والنفسى، إلى جانب توفير خدمات صحية واجتماعية للأطباء وأسرهم، وطالب أيضا بضرورة إصدار قانون للمسئولية الطبية يضمن حماية الأطباء من الحبس فى حال حدوث مضاعفات أو أخطاء غير مقصودة، ويحفظ فى الوقت ذاته حقوق المرضى، وهو ما يُعد خطوة ضرورية لإعادة الاعتبار لمهنة الطب. وأكد أن تحسين نظام التقاعد للأطباء يجب أن يكون ضمن الأولويات، مثلما يجب توفير فرص تدريب حقيقية تتناسب مع أعداد الخريجين، وتخفيض تكاليف هذا التدريب حتى تكون فى متناول الجميع، وشدد على أهمية العمل لإذابة الجليد بين الأطباء والمجتمع، من خلال إعادة الصورة المشرفة للطبيب المصرى فى وجدان الناس، وإبراز دوره الإنسانى والعلمى فى خدمة المجتمع. ◄ نزيف المنظومة الصحية فيما ترى النائبة إيرين سعيد، عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، أن الهجرة لم تعد مقصورة على الأطباء وحدهم، بل باتت تشمل أيضًا المهندسين وأطقم التمريض، إلا أن ما نشعر به بشكل أكثر وضوحًا هو أزمة هجرة الأطباء، نظرًا لانعكاسها المباشر على العجز فى الكوادر البشرية داخل مستشفيات القطاع الحكومى، هذا النقص بات ملموسًا فى مختلف التخصصات، ويؤثر سلبًا على جودة الخدمة الطبية المقدّمة للمواطنين. ويعود هذا العجز إلى عدة أسباب، أبرزها غياب الحماية القانونية الكافية للأطباء، ورغم أن مجلس النواب أقر مؤخرًا قانون المسئولية الطبية، فإن الانقسام داخل نقابة الأطباء حال دون الاستفادة الفعلية من هذا المكتسب، بل تم استغلال القانون كسلاح فى صراعات داخلية، مما ساهم فى تشويه صورته والتقليل من قيمته، وتغافل المكتسبات التى منحها للأطباء. من ناحية أخرى، أدى النقص العددى فى صفوف الأطباء إلى تكليفهم بالعمل فى محافظات بعيدة عن محل إقامتهم، وهو ما يصعب عليهم بناء حياة مستقرة أو تأسيس أسرة، خاصة فى ظل عدم توافر عائد مادى مجزٍ يساعدهم على توفير حياة كريمة، فالعائد المالى مازال من الأسباب الرئيسية التى تدفع الأطباء للهجرة، خصوصًا حين يُقارن ما يتقاضونه فى مصر بما يحصل عليه أقرانهم فى الدول الأوروبية أو الخليجية من رواتب وامتيازات معيشية. ◄ ..وأشياء أخرى ومع قلة الأعداد، ترتفع ساعات العمل إلى حد مرهق، حيث يجد الأطباء أنفسهم مجبرين على التعامل مع أعداد كبيرة من المرضى، تتجاوز طاقتهم البشرية، وقد شهدنا بالفعل حوادث مأساوية لأطباء فقدوا حياتهم نتيجة الإرهاق الشديد أثناء تأدية عملهم، ولا يختلف الوضع كثيرًا داخل المستشفيات الحكومية. فضلا عن أن الحالة الاقتصادية المضطربة، وارتفاع نسب التضخم، أجبر قطاعًا كبيرًا من المرضى على الاتجاه إلى المستشفيات الحكومية وترك العيادات الخاصة، وهو ما أثر أيضًا على دخل الأطباء الذين كانوا يعتمدون جزئيًا على العمل الحر لتعويض ضعف رواتبهم فى المستشفيات العامة. وهكذا، تتكامل حلقات الأزمة حتى تصل إلى نهايتها المنطقية: الاستسلام الكامل من جانب الطبيب، واتخاذ قرار الهجرة كخيار وحيد للنجاة. وأكدت على أن زيادة أعداد الخريجين من كليات الطب قد تساهم جزئيًا فى تخفيف حدة الأزمة على المدى البعيد، لكنها لن تكون حلًا فعالًا فى غياب بيئة عمل جاذبة ومحفزة، فبدون تغيير حقيقى فى مناخ المهنة، ستستمر الأعداد فى التناقص، وستظل الهجرة هى الحل الأقرب لكل طبيب يشعر بأنه فقد الأمل في البقاء.