في قلب الرمال الذهبية بسقارة، وبين جدران مقبرة عسكرية فريدة، تُخبئ مصر القديمة فصولاً نادرة من تاريخ جيشها العظيم. الكتلة الحجرية المعروضة أمامنا ليست مجرد قطعة أثرية، بل هي مشهد حيّ مرسوم بدقة على جدار القائد العسكري "حور محب" قبل أن يصبح ملكًا على مصر. لوحة تجسّد تفاصيل يومية من معسكر الجيش المصري في عهد الملك توت عنخ آمون، وتمنحنا لمحة نادرة عن الحياة العسكرية، والعلاقات اليومية، وحتى دور الحيوانات في تلك المنظومة المتكاملة. أصل الكتلة الحجرية هذه الكتلة الحجرية منقولة من مقبرة القائد العسكري "حورمحب" بسقارة، وهي المقبرة التي شُيّدت خلال فترة قيادته للجيش في عهد الملك "توت عنخ آمون"، قبل أن يصعد إلى العرش ويبني لنفسه مقبرة ملكية في وادي الملوك، وتعد مقبرته الأولى من أروع المقابر التي وثّقت مشاهد الحياة العسكرية بدقة فنية وتفصيلية مدهشة. تفاصيل المشهد المنقوش الصف العلوي – لحظة راحة في المعسكر: يتصدر المشهد صف علوي تظهر فيه عجلة حربية وقد توقفت عن الحركة، حيث نرى قائد المركبة جالسًا من الخلف مستمتعًا بلحظة راحة بعد التدريب أو القتال. وعلى الجانب الأيمن من اللوحة، نُشاهد حارس الأسطبل ممسكًا بحبل يقيد حصانين بعد فصلهما عن العجلة الحربية، في مشهد يدل على التنظيم والانضباط داخل المعسكر. الصف السفلي – جانب من الحياة اليومية في المعسكر: الجزء السفلي من الكتلة يعكس مشهدًا مدنيًا داخل المعسكر، يُظهر على الجانب الأيسر مخزنًا مليئًا بالطعام والجرار والأثاث وبعض الأغراض الأخرى التي تُستخدم في الحياة اليومية. بينما على الجانب الأيمن، يُطل طفل ذو خصلة شعر جانبية – وهو ما يدل على كونه طفلًا صغيرًا – يحمل مائدة عليها أطعمة متجهًا بها خارج المخزن. فوق هذا المشهد، نرى حمارًا يأكل من وعاء كبير، وهو تفصيل مهم يكشف جانبًا غير شائع في الإدراك العام لدور الحيوانات في الجيش المصري القديم. الحمير في الجيش المصري القديم: ما قد يجهله الكثيرون أن الحمير لم تكن حيوانات للنقل المدني فقط، بل كانت تُستخدم في الأنشطة العسكرية في مصر القديمة. وذلك يرجع لعدة أسباب: قدرتها العالية على التحمّل لمسافات طويلة. تحمّلها للعطش أكثر من الحصان. سرعتها وخفة حركتها، ما جعلها خيارًا مثاليًا لنقل الإمدادات والأغراض داخل المعسكرات وفي المناطق الصحراوية. رمزية المشهد وتوثيقه التاريخي: هذا المشهد المنقوش بدقة ليس مجرد توثيق لحياة معسكر، بل هو تجسيد لفكر عسكري متكامل يُبرز مدى التنظيم والاهتمام بالتفاصيل في الجيش المصري القديم، من تدريب الجنود إلى رعاية الحيوانات، مرورًا بتخزين الإمدادات وتوزيع الطعام. هكذا تنطق الحجارة بلغة التاريخ، وتُخبرنا كتلة حجرية واحدة من سقارة عن صفحات مشرقة من حضارة عسكرية راقية، أبهرت العالم في دقتها وإنسانيتها. مشاهد كهذه لا تُعيد رسم الماضي فحسب، بل تلهمنا بفهم أعمق لعظمة من صنعوا التاريخ بأدوات بسيطة ورؤية استراتيجية عظيمة. اقرأ أيضًا | مقبرة الأمير «وسر إف رع».. أسرار جديدة من عصر الأسرة الخامسة