من صفحات رواية كتبها «نيكوس كازانتزاكيس» فى أربعينيات القرن الماضى، خرجت شخصية «زوربا» إلى العالم، ذلك الإنسان الذى يواجه الوجود بالرقص ويرى فيه خلاصًا. وعلى يد الموسيقار «ميكيس ثيودوراكيس» (1925 - 2021) تحوّلت هذه الروح الجامحة إلى موسيقى أيقونية تُعزف فى الميادين والمسارح حول العالم، ومن بينها دار الأوبرا المصرية، التى شهد مسرحها أول عرض لباليه «زوربا» عام 1990 بقيادة ثيودوراكيس نفسه، والآن بعد 35 عامًا تعود الموسيقى ذاتها لتُعزف من جديد ضمن احتفاليات مئوية ميلاده، المستمرة خلال عام 2025 – حسبما أعلن السفير اليونانى فى مصر – بالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية والسفارة اليونانية بالقاهرة وقطاع العلاقات الثقافية الخارجية. رواية «زوربا اليونانى» (1946) هى العمل الأشهر لكازانتزاكيس، وتعتبر سيرة شبه متخيلة لصداقة حقيقية جمعت الكاتب بإنسان بسيط يُدعى «يورجوس زوربا»، عاش معه فترة فى مناجم جزيرة كريت. تناول فيها الصراع فى فلسفة العيش بين الفكر والتنظير مقابل الانطلاق وفوضوية الحياة، فالبطل زوربا يمثل تلك الطاقة الحرة التى لا تؤمن بالخوف، ولا تكبحها الأعراف، فى حين يمثل الراوى نزعة العقل والبحث الوجودى العميق. وهكذا؛ نرى أن شخصية زوربا وُلِدت من التمرد والاعتراض، وهو ما تلاقى بقوة مع ثيودوراكيس بروحه الثورية، التى دفع مقابلها أثمانًا طائلة، فقد كان من أبرز وجوه المقاومة السياسية فى اليونان خلال القرن العشرين، وناضل ضد الاحتلال النازى لبلاده خلال الحرب العالمية الثانية، وتعرض للتعذيب والسجن فى شبابه. وفى عام 1967 مع صعود المجلس العسكرى للحكم فى اليونان، أصبح أحد رموز المعارضة، فاعتُقل مجددًا ووُضع قيد الإقامة الجبرية، قبل أن يُطلق سراحه بضغط دولى واسع، وينتقل إلى المنفى حيث واصل نضاله من باريس بالموسيقى، فهى فى رأيه - كما قال لأحمد فايد خلال حواره معه فى مصر، «الأهالى» 1990 - لغة الإنسان التى تُسقِط الحواجز بين الألوان والصفات والجنسيات، فعندما تعجز اللغات عن إحداث التواصل بين البشر، تصبح الموسيقى هى القادرة على ذلك. وضع ثيودوراكيس موسيقى لقصائد مقاومين ومثقفين، من بابلو نيرودا إلى يانى ريتسوس، وجمع فى أعماله بين البُعد الفنى والرسالة السياسية، رافضًا الاستبداد بكافة صوره، وعبّر صراحة عن دعمه لقضايا الشعوب المضطهدة، ومن أبرزها القضية الفلسطينية، فقد عُرف بمناهضته للاحتلال الإسرائيلى منذ السبعينيات، وفى عام 1982 استجاب لطلب الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات بتأليف نشيد وطنى للدولة الفلسطينية، والذى أصبح جزءًا من الهوية الفلسطينية فى المنفى. كما وجّه انتقادات شديدة للسياسات الإسرائيلية فى الأراضى المحتلة ولبنان، واعتبر أن ما يحدث فى غزة والضفة الغربية يرقى إلى «جرائم ضد الإنسانية». وفى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين؛ أثار ثيودوراكيس جدلًا بسبب تصريحات أدلى بها واعتبرها البعض معادية للسامية، حين وصف «اليهود» بأنهم وراء مآسى عديدة فى العالم. عودة إلى موسيقى زوربا؛ فقد وضعها ثيودوراكيس كجزء من الفيلم الشهير «زوربا» الذى أُنتج عام 1964 من بطولة أنتونى كوين، وصارت من بعده «رقصة زوربا» رمزًا للمزاج اليونانى الشعبى والقدرة على تجاوز الألم بالرقص. نال الفيلم ثلاث جوائز أوسكار، وساهم فى تخليد الشخصية وتحويلها إلى أيقونة ثقافية، ما مهّد لاحقًا لتحويل العمل إلى باليه راقص فى الثمانينيات، صممه الأمريكى لوركا ماسين، مستخدمًا نفس الخط الدرامى للرواية، وتم تقديمه للمرة الأولى عام 1988 فى مدينة فيرونا الإيطالية، ثم انطلق فى جولات عالمية شملت باريس، موسكو، برلين، مدريد، طوكيو، بوينس آيرس، نيويورك، وحقق نجاحًا جماهيريًا لافتًا، بما فى ذلك دار الأوبرا المصرية، التى استقبلت موسيقاه مجددًا قبل أيام فى حفل قاده المايسترو «ميشال إكونومو» على رأس أوركسترا الإذاعة والتلفزيون اليونانية (ERT)، وشاركت فيه الميتزوسوبرانو «نيفيلى كوتسيلى» وكورال «أكابيلا» التابع لأوركسترا القاهرة السيمفونى بقيادة «مايا جيفينريا»، ليقدموا أبرز المقاطع التى عبّر من خلالها ثيودوراكيس عن حياة زوربا موسيقيًا، ومن بينها: رقصة النساء، طقوس مقتل الأرملة، رقصة هاسابيكو، مارينا، عودة زوربا، زفاف هورتنس، والنجمة الصغيرة. حصل ثيودوراكيس على تكريمات عدة وجوائز عالمية، منها وسام الشرف الأعلى من الدولة اليونانية، وتكريمات من جامعة السوربون فى باريس، وأكاديمية الفنون فى برلين، والمعهد الموسيقى فى موسكو. إلى جانب جائزة اليونسكو الدولية للموسيقى عام 2005، تكريمًا لإسهاماته فى تعزيز ثقافة السلام والحوار بين الشعوب من خلال الفن، ووسام جوقة الشرف الفرنسى، وجائزة لينين للسلام، وجائزة إريك ساتى فى باريس، وعددًا من الميداليات الفخرية من دول مثل روسيا، ألمانيا، تشيلى، كوبا، وإسبانيا. وعلى العكس منه؛ لم يحصل كازانتزاكيس على جوائز فى حياته، رغم ترشح اسمه على مدار سنوات لجائزة نوبل، آخرها عام 1956 التى خسرها بفارق صوت واحد لصالح ألبير كامو. نال - فقط - وسام الشرف الفرنسى لجهوده فى الترجمة من الفرنسية لليونانية، وجائزة لينين للسلام فى مدينة فيينا عام 1957 قبل وفاته بأربعة شهور. لكنهما اجتمعا فى إيمانهما بأن الفن ضرورة للبقاء والتحرر من الخوف، وليس رفاهية. يمكن القول إن ما يجعل «زوربا» حيًا حتى اليوم، أنه يمثل سؤال الإنسان فى مواجهة العبث، والسعى لصناعة المعنى عبر الفرح وسط الآلام، والرقص رغم الموت، ولعل هذه الفكرة تحديدًا هى ما ألهبت خيال ثيودوراكيس؛ فحوّل المأساة الإنسانية إلى نغمة راقصة. وهو ما - ربما - نحتاجه الآن، فى ظل لحظة عالمية ثقيلة، مليئة بالحروب والتهجير والأزمات الاقتصادية والبيئية، نحتاج فيها إلى استعادة البهجة لنقاوم ونتمكن من مواصلة طريقنا فى الحياة، وهو ما عبّر عنه كازانتزاكيس فى الرواية؛ قائلًا عن زوربا: «كان يعلمنى أن أفتح عينى على الحياة». وإن كانت رحلة زوربا قد بدأت من مناجم كريت، فإنها اليوم تمرّ بدور الأوبرا، وميادين المدن، والمسارح، لترفع السؤال ذاته: كيف يمكن للإنسان أن يظل حرًا؟ وتأتى الإجابة فى صورة رقصة تبدأ عند أقدام زوربا ولا تنتهى.