كل عام، ومع أول نسمة ربيعية تلفح وجه مصر، تتفتح القلوب قبل الزهور، وتعود الأرواح إلى عشقها الأبدي للطبيعة والحياة. إنه عيد شم النسيم، ذلك العيد العريق الذي لا يُعد مجرد مناسبة، بل حكاية متجددة من الفرح والتجدد، تمتد جذورها إلى أعماق التاريخ المصري، وتعكس حب الإنسان للحياة والطبيعة، بكل ما فيها من تجليات الجمال والبعث. اقرأ ايضاً| بين تقديس البصل واستقبال فصل الحصاد.. قصة أقدم عيد للمصريين شم النسيم.. أقدم احتفالات التاريخ المصري يُعد عيد شم النسيم أحد أقدم الأعياد الشعبية في تاريخ البشرية، إذ ترجع بداياته إلى ما يقرب من خمسة آلاف عام، عندما احتفل به المصريون القدماء مع نهاية الأسرة الثالثة وبداية الرابعة، وهناك من يرجعه إلى ما قبل عصر الأسرات. وقد ارتبط الاحتفال منذ نشأته بالطبيعة والتجدد والحصاد، حيث كان "شمو" هو الفصل الزراعي الذي يعلن بداية العيد، ويرمز إلى الخلق وبعث الحياة. تحول ديني وامتداد زمني عندما دخلت المسيحية إلى مصر، تزامن شم النسيم مع نهاية الصوم الكبير، فصار يُحتفل به في اليوم التالي لعيد القيامة المجيد، واستمر هذا التقليد حتى اليوم، مما منح العيد طابعًا اجتماعيًا شاملاً يشارك فيه المصريون على اختلاف دياناتهم. مظاهر الاحتفال من المعابد إلى الحدائق شهدت احتفالات شم النسيم تطورًا كبيرًا، فبينما كان القدماء يطوفون حول المعابد ويقدمون القرابين للمعبودات، أصبح المصريون اليوم يحتفلون بالخروج إلى المتنزهات والحدائق، في أجواء مبهجة تتخللها الأغاني والضحكات، وتستمر حتى غروب شمس اليوم الربيعي. أطعمة لها رمزية خاصة اشتهر عيد شم النسيم بمائدة فريدة، ترتبط بطقوس ودلالات روحية ورمزية: البيض: رمز للخلق وبداية الحياة، كان يُلون بألوان مستخلصة من الطبيعة، وتُكتب عليه الأمنيات والدعوات. السمك المملح (الفسيخ): يرمز للحياة التي نشأت من المياه، وكان يُجفف ويُخزن بطريقة خاصة في ما يشبه الورش. الخس: يدل على الخصوبة، وذُكر في بردية إيبرس كعلاج لأمراض الجهاز الهضمي. البصل: رمز لتجدد الحياة، وكان يُستخدم لطرد الأرواح الشريرة، ويُعلّق في البيوت وحول الرقاب. الملانة (الحمص الأخضر): دلالة على دخول الربيع، إذ تنضج ثمرتها مع بداية هذا الفصل الجميل. شم النسيم.. عيد لكل المصريين يُعد شم النسيم عيدًا يعبر عن وجدان الشعب المصري، فهو ليس مجرد طقس موسمي، بل مناسبة تتجدد فيها البهجة، وتزدهر فيها القيم القديمة للحياة والطبيعة والارتباط بالأرض، لتُذكرنا كل عام بأن الربيع لا يسكن الفصول فقط، بل يسكن القلوب أيضًا.