لم يكن المصري القديم يرى في الطبيعة مجرد مشهد عابر، بل كانت له فلسفته الخاصة في تأملها والاحتفاء بها،ومن رحم هذه الفلسفة نشأ عيد شم النسيم، أحد أقدم الأعياد المرتبطة بتجدد الحياة، والذي يرجع إلى عصر الدولة القديمة، فقد ارتبط هذا العيد ببداية فصل الربيع وبتقويم زراعي دقيق قسّمه الفراعنة إلى ثلاثة فصول، واعتبروا فصل الحصاد، المعروف ب"شمو"، رمزًا لبعث الحياة من جديد. طقوس متوارثة عبر العصور احتفل المصريون بهذا العيد منذ آلاف السنين، باعتباره بداية خلق العالم، وكانوا يستقبلونه مع اعتدال الجو وطيب النسيم، بالخروج إلى الحدائق والمتنزهات، وتقديم القرابين للآلهة، والطواف حول المعابد في طقوس مهيبة، تتخللها عروض مسرحية وموسيقى ورقصات شعبية. وكان المصريون القدماء يصطحبون معهم أطعمة ارتبطت رمزيًا بالعيد مثل البيض الملون رمزًا للخلق، والفسيخ المرتبط بتقديس نهر النيل، والبصل الذي اعتبروه رمزًا لطرد الأرواح الشريرة والشفاء، والخس الذي عرف بخصائصه المرتبطة بالخصوبة، إضافة إلى الحمص الأخضر (الملانة) الذي بشّر بقدوم الربيع. اقرأ أيضا..بطريقة آمنة | حيل لتلوين البيض في شم النسيم أساطير واعتقادات من الأساطير الشعبية التي ارتبطت بشم النسيم قصة "الأمير المريض"، والتي تحكي عن شفاء ابن أحد الملوك بعد استخدام البصل لطرد الأرواح الشريرة التي أقعدته، فتعمّمت عادة تعليق البصل وتناوله في العيد. كما كان تلوين البيض ونقش الأمنيات عليه من الطقوس الرمزية التي حملت معنى التجدد والبعث، وأصبحت عادة راسخة حتى عصرنا الحديث. احتفال شعبي وديني ممتد رغم أن شم النسيم بدأ كعيد غير ديني، فإن تقاطعاته التاريخية مع عيد القيامة المجيد لدى المسيحيين جعلته جزءًا من تقويمهم الشعبي والديني، حيث يحتفل الأقباط بعيد القيامة، يليه شم النسيم يوم الإثنين، وما زالت مظاهر الاحتفال تشمل تزيين البيوت بالزهور، وتناول الأطعمة الرمزية، وتنظيم النزهات، بينما يتزين الأطفال بعقود الزهور ويحملون سعف النخيل الملوّن. بين الماضي والحاضر تظل طقوس شم النسيم قائمة في مصر الحديثة، كشاهد حي على استمرارية تقاليد فرعونية تجاوزت آلاف السنين،فبينما تغيّرت ملامح العصر، بقيت الروح المصرية الأصيلة تحتفل بالربيع كما فعل الأجداد، في طقس يعيد ربط الإنسان بالأرض، والفرح بالطبيعة، ويؤكد أن الحياة تبدأ من جديد في كل ربيع.