محمد عبد النبى يتساءل الشاعر والفيلسوف الألمانى نوفاليس (1772-1801): إلى أين نحن ذاهبون؟، ويجيب: دائمَا إلى البيت. كأننا فى حالة عودة دائمة إلى الأصل، سواءً كان هذا الأصل جذورنا الشخصية أو أمّنا الأرض أو حتى أصلنا السماوى الغامض. كأنه يقول أيضًأ إننا مهما ابتعدنا نعود مجددًا إلى نقطة البداية. وقد نتساءل: مَن هو الذى يعود دائمًا إلى البيت؟ أهو الشخص نفسه الذى خرج منه قبل دقائق أو سنوات أو دهور أم شخصٌ آخر تمامًا؟ هل كان بوسع أحد أن يتعرّف على أوديسيوس بعد عودته إلى إيثاكا، لولا أثر جرح الخنزير البرى فى قدمه؟ حتى بِنيلوب، الزوجة المخلصة ساورتها الشكوك، وعملت عليه حيلة لتتأكد من أنه هو نفسه زوجها فعلًا. فى روايتها الأولى، (السيرة قبل الأخيرة للبيوت) الصادرة عن دار المرايا 2024، تحاول الكاتبة مريم حسين الإجابة عن سؤال ما البيت على وجه العموم، وما البيت بالنسبة إليها؟ وعبرَ رَصد سردى متتابع لعددٍ من بيوت عاشت فيها ذات موازية للكاتبة أسمتها ميمى وتتقاسم معها كثيرًا مِن الملامح الشخصية والاجتماعية حتَّى تقف بالرواية على الحد الفاصل الدقيق بين السيرة الذاتية والتَخييل. للكاتبة مجموعتان قصصيتان، هُما (غَزْل السحاب) و(سِرُّ السُكَّر)، ودرست السيناريو فى معهد السينما كما درست التربية الموسيقية وتعمل كمعلّمة موسيقى. ولن يكون من الصعب علينا الإحساس بالإيقاع الموسيقى الواضح بين سطور روايتها، وكذلك التعويل على الوصف الدقيق للعالَم وشخصيات الرواية والإحساس المشهدى المتدفق بالحيوية والحركة، والرصد بعين المحب وليس بعين المراقب المحايد والبارد. لكنَّ طموح هذه الرواية يتجاوز إيقاع الموسيقى ووضوح المشهد السينمائى إلى ما لا يمكن إلَّا للرواية أن تحققه، وهو ببساطة التفكير فى سؤالٍ مركزى عبر السَرْد، أى عبر تشكيل لغوى محكم لمجموعة من الحكايات والمواقف التى تؤديها شخصيات من كلمات غير أنها تبدو فى مخيلة القارئ حقيقية وملموسة أكثر من المحيطين به فى لحظة القراءة. التحدى الذى استطاعت رواية مريم حسين تحقيقه بأبسط الطرق، غير مستعينة فى ذلك بأسلحة السرد ثقيلة الوطأة مِن رمزية أو بلاغة أسلوبية مُفارقة أو فانتازيا فاقعة الألوان، بقدر ما استعانت بالشجاعة الكافية لفتح مغاليق الذاكِرة الخاصة واستخراج كنوزها واستعراضها فى نور المحبة الهادئ. السيرة مفهوم مركزى فى رواية مريم حسين، لكنّها وفقًا لعنوانها ليست سيرة أخيرة، ليست نهائية وليست كلمة أخيرة فى أى شيء. هى السيرة ما قبل الأخيرة، والأغلب أنَّه لن توجد سيرة أخيرة أبدًا، إذ مع كل تَذكُّر واستعادة وسرد تتخذ كل سيرة شكلا جديدًا وهيئة حكاية أخرى. والسيرة هُنا، ووفقًا للعنوان كذلك، توحى بأنها سيرة بيوت وأماكن ومناطق فى القاهرة الكبرى من بشتيل فى إمبابة إلى بعض مناطق حى الهرم الشعبية والراقية إلى جانب قرية الفيوم، لكن ما ظهر، فى كل فصل من فصول الرواية الستة عشر، إلى جانب رسم ملامح المكان بطبيعة الحال فى لحظةٍ زمنية بعينها، أنَّ السيرة الأهم والتى تقف فى صدارة المشهد هى سيرة سكَّان تلك البيوت، تحديدًا أسرة ميمى معلمة الموسيقى ووالدها المحامى المناصر للغلابة والرافض للاغتراب فى دول الخليج والعاكف على نَمنمة قِصصه ورواياته فى الظل كأنه متعفف عن طلب الضوء أو كاره لصخب التزاحم. علاقة الراوية بأبيها تبدو خيطًا ناظمًا يتخلل جميع البيوت والمناطق الجغرافية والسردية التى تنقلت بينها الرواية، حتَّى من بعد موته، وقد غيَّبه الموت مع صفحات الرواية الأولى وربما من قبل نقطة الانطلاق فى السرد، بعد عَناء مع الفشل الكلوى ومتاعب الغسيل المنتظم. تبقى ميمى مع ذكراه وإرثه وما خلَّفه من أوراق القضايا والأعمال الأدبية والتفاصيل الصغيرة العالقة هنا وهناك، بل حتَّى مع سوسو؛ وهو اسم البُرص القاطن معه فى مطبخ مكتب المحاماة. كان من شأن هذه العلاقة تحديدًا، لو اكتفت بها الكاتبة، أن تنتجَ نصًت سرديًا بديعًا ورشيقًا. نص يستبطن كل المسكوت عنه بينهما وجدل المحبة/الكراهية والاعتراف/الصمت، ومستويات أخرى من الشد والجذب، لا سيما بعد مرضه وسوء حالته الصحية. لكنَّها آثرت أن تضع هذه العلاقة فى سياقٍ نسيج أوسع (أوسع ممَّا يجب قليلًا؟) وأعقد وأغنى مِن الحكايات المنظومة معًا؛ حكايات صغيرة لمواقف وشخصيات وجيران وأقارب، لا يكاد يجمعها جامع إلَّا وجودهم معًا فى حيز مكانى واحد عند لحظة زمنية ما. تختبئ ميمى مِن حكايتها الخاصة فى حِضن حكايات الآخرين، كأنَّها تُذوّب ذاتها فى مياه الزحام والصخب والألوان الصارخة والنشاز، حتَّى حكاياتها العاطفية الصغيرة فى الطفولة والمراهقة تمر سريعا وعلى استحياء، ويبقى صالح حبيب فترة النضج حضورًا شبحيًا، بلا ملامح واضحة أو قصة متماسكة لعلاقتهما العاطفية. فتنضمَّ إلى سلسلة البيوت التى عاشت فيها تلك الشقق العابرة التى جمعتها به، حيث تصعد إليه فى ثقة صاحب البيت وليس فى تردد الزائر أو السارق، فلا يسألها أى بوَّاب أبدًا عمَّن تكون أو مَن تقصد. تلتقى بحبيبها فى بيوت مؤقَّتة، حيث مُتَع الحُب المُختَلسَة من وراء ظهر البيوت الرسمية والروايات الرسمية للأهل والمدارس والشوارع المهددة أغلب الوقت. النبرة المُهيمنة نبرة الرصد الصاحى الذى لا يكاد يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلَّا أحصاها بلا إملال أو تزيُّد، كأنمَّا تلبية لرغبة عارمة فى قول كل شيء دفعة واحدة، بحيث لا تُنسى ذكرى ولا يُهدَر تذكارًا. يبرُز المستوى الاجتماعى لهذا الرصد، طوعًا أو كرهًا، فتتجلَّى وجوه المدينة وتحولاتها الاقتصادية والديموجرافية منعكسة على الجدران والعائشين فيها سواء بسواء، كما يبرز المستوى النَفسى للرواية، ولو بين السطور وبلا تصريح أو مباشَرَة فجَّة، التى تحتضن العالَم المتوارى قبيلَ تبدُّده. يتبدَّى الإشفاق على العابِر والزائل مكانًا أو زمانًا فى مواضع مختلفة، منها عندما تسجّل ميمى بكاميرا الموبايل جدران شقة سوف يتركونها بعد إخلائها من الأثاث، مستحضرة كل سنين عَيشهم فيها، من غير أدنى شُبهة بكاء على الأطلال ونوستالجيا بدائية بلا ضابط، بقدر ما هو تلمُّس باليدين العاريتين لعجينة الأيام والليالى المختمرة وراء بدن الأماكن، وشعور بمسؤولية وجدانية يجعلنا حريصين على كل فُتاتة من ماضينا، فنودُّ لو نتصيدها ونأسرها فى كادرات أو على السطور، حتى ولو كانت أغنية يغنيها الأطفال نهاية القرن الماضى فى أثناء لهوهم. ما مِن خط زمنى متتابع لهذه الرواية، تذهب الأماكن وتحضر من جديد، تمامًا كما نشهد وجود الأب فى لحظات مختلفة من حياته بعد مشاهد مرضه وموته. عكسَ هذا التجاور غير المنصاع لقانون الوقت إيمانًا مُضمَرًا بأنَّ الماضى لم يزل حيًا قائمًا وفعَّالًا، وأنَّ ثمَّة بيت أوَّل، ابن الحقيقة أو الوهم، يتخذ أشكالًا مختلفة مع كل انتقال وعبور، وأنَّ ثمة ذاتًا تتجدَّد وتتجلَّى مهما تخفت وراء أقنعة الآخرين وحكاياتهم العابرة. تمامًا كما كانت الطِفلة ميمي، فى بيت بشتيل، تؤلف التمثيليات الشبيهة بما تراه على شاشة التليفزيون، وتوزّع أدوارها بينها وبين أختيها وصاحباتهن من بنات الجيران، وتشارك فى تمثيلها على سلّم البيت، بكل الاندماج والإخلاص الممكنين للعيش فى أدوار أبعد ما تكون عن براءة الطفولة. هكذا فعلت مريم حسين أيضًا فى هذه الرواية، حين قسمت ذاتها على ذوات كثيرة، أكثر عددًا من أن تحتمل رواية ربما لكن أقل عددًا من أن تتسوعب ذاكرة مُحبّة. لعلَّ البيت أيضًا هو المكان الذى نتخلَّى فيه عن جديتنا الزائفة وتجهمنا فى وجه العالَم، ونستسلم فيه للمرح والمزاح والرحرحة، وقد يساعدنا أوديسيوس مرة أخرى هَا هنا، إذ ظلَّ جادًا وحازمًا طوال حرب طروادة وطوال رحلته الطويلة فى العودة إلى إيثاكا. وبعد أن بلغها بدا كأنَّه تحوَّل إلى شخص آخر، بل بدأ فى ألعاب التنكّر والكذب واختلاق شخصيات يعيش فى إهابها، فتظاهر بكونه متسولًا درويشًا حتَّى يأمن مكرَ خصومه من خُطَّاب زوجته. فى عودتنا الدائمة إلى البيت قد نضطرُّ للاحتفاظ بوجهٍ ما فى مواجهة العالَم وهجماته المتكررة على ذواتنا، وجه ثابت يكون أقرب إلى واجهة من أجل الآخرين. أمَّا عند بلوغنا البيت فيمكننا أن نكون أنفسنا، أو ما هو أهم وأجمل أن نكون كلَّ شخص نريد أن نكونه، لأنَّ حرية التنكُّر واللعب نِعمة قاصرة على ما يشبه الوَطن، ويمكننا أن نطلق على ذلك الموضع الآمن أيضًا اسم البيت أو الفن أو الخيال أو ما نشاء.