د. منير الحايك قد يتساءل البعض عن السبب الذى يجعل روائيًّا متمكّنًا، له إصدارات عديدة لها موقعية قيّمة على رفوف مكتبة الرواية المعاصرة، يقوم بإصدار مجموعة قصصية فى «زمن الرواية» وسطوتها من حيث جذب القراء والمهتمين والصحفيين، ومن حيث وصول المجموعات القصصية إلى قوائم الجوائز التى سيطرت على عقول الكتّاب قبل المتلقين، فلا يجد الإجابة إلا عندما يقرأ هذه المجموعة، وهنا أتحدث عن مجموعة «حارسة الحكايات» (دار الشروق 2025) لإبراهيم فرغلى. لماذا لم يتوسّع فرغلى بكلّ واحدة من هذه الحكايات، أو يدمج ما تتلاقى أفكارها وشخصياتها وأحداثها ليشكّل رواية أو نوفيلا على الأقل؟ سؤال يُلِحّ على بال المتلقى إلى أن يبدأ بالقراءة، ويجد إجابةً قبل القراءة قالها الناقد الإنجليزى برنارد ماثيوز قبل أكثر من قرن من الزمن، ف القصة القصيرة كما يقول لا يمكن أن تكون جزءًا من رواية، كما أنه لا يمكن أن يتوسع فيها كى تشكّل رواية، لأنها سوف تفسد وتفقد تأثيرها الذى وُجِدت من أجله. فما الذى قدمه فرغلى فى قصصه؟ هى مجموعة من ثمانى قصص، تبدأ مع «أشباح المغارة» التى استلهمها الكاتب من مشهد فيلم لمخرج يابانى، مرورًا ب«حارسة الحكايات»، وتنتهى القصص مع «امرأة من أقصى المدينة»، وقد تراوح طول القصص من عشر صفحات إلى ما فاق العشرين منها، ولكنها جميعها، كانت تجيب عن تساؤلات المتلقى منذ بداية كل منها، فالقصص كانت أسبابها متشابهة، وهى تجربة شعورية خاطفة، سبّبتها مواقف مختلفة، منها زيارات سياحية وأخرى مشاهد مؤثرة، وأخرى اشتباكات فى لاوعى الكاتب حول مبادئه وحقائق التاريخ، ومثل هذه الاشتباكات ظهرت فى قصة «قصر العزلة»، ولعل أبرزها كانت فى «حارسة الحكايات»، حيث أكّدت الحارسة، التى سردت القصة بشكل مختلف حول الأطفال السبعة، أنّ التاريخ يجب أن تُعاد قراءته، وربما محاسبته ومحاسبة من يكتبه. فى حارسة الحكايات ومسألة تعارض السيرة التاريخية بحسب السارد وموقعيته وموقفه، وتاريخ أى طرف يقرأ، خطرت فى بالى مباشرة قضية غزة وفلسطين وكل بلادنا، حيث نراه يشوَّه أمام أعيننا، فكانت القصة لتقول ليس الواقع ما علينا حراسته ليصبح تاريخًا صحيحًا، بل علينا العودة إلى التاريخ الفعلى أيضًا. يقول الناشر إننا فى الحكايات سنلتقى بشخصيات تجرأت على مواجهة أشباحها، فى المغارة فى القصة الأولى الجندى رقم 18 هو صوت ضمير كل واحد فينا، و«طيف» فى القصة الثانية «سينيمافيليا» هى كل أمنياتنا التى نتمنى أن نلقاها فى لحظات الهروب من الواقع وأسبابه، والكثير من المواجهات، لأشباحنا أو لذواتنا إن صح التعبير، فوقوف البطل فى قصة «الأسود الجميل» أعلى الجسر وكل الوهم الذى رافق العلاقة بالأم، ومن هو بالفعل الغائب الحاضر، لهى من أعمق الحوارات التى قرأتها، أما العبارات التى علقت بقوة فى بالى بوصفى متلقيًّا يبحث عن جديد حتى ولو كان فى عبارة واحدة من كتاب، فهى «أذهلتنى قوة اعتياد القُبح» من القصة نفسها، لأن قوة هذا الاعتياد تسيطر على البشرية منذ زمن غير قصير، وما زالت. القصة التى لم تكن من وجهة نظرى ببساطة المشهديات السريعة والمركَّزة والمناسبة للقصة القصيرة والتى أعطت القصص فرادتها هى «قصر العزلة»، فهى على الرغم من عمق فكرتها، إلا أن المبالغة فى استعراض الكتب وقراءتها والأسباب التى عرّفتنا القصة من خلالها بتلك الكتب، وخصوصًا «مئة عام من العزلة»، وجدتُ فيه «كليشيه» مكرَّر، وذِكر مدينة ماكوندو مثلًا استعراض غير مبرَّر للعزلة التى أرادت القصة أن تركّز عليها حول البطل فيها! أسلوب الكاتب فى قصصه كان الأبرز والأقوى، فهو كان يكتب قصصه بنَفَس الرواية، خصوصًا فى خضمِّها، وليس فى بداياتها ونهاياتها، فهو كان يعرف كيف يبدأها وكيف سينهيها، وكأنه كان مقررًا ذلك قبل الشروع فى الكتابة وبعد الموقف أو التجربة الشعورية التى كانت سبب الكتابة، إلا أنه وفى أثناء السرد، وإنشاء العلاقات بين الشخصيات، وبين الأمكنة والأزمنة والأحداث، على الرغم من التكثيف والسرعة والاختصار، إلا أن نَفَس الروائى كان ظاهرًا وبقوة. هذه المجموعة القصصية فى زمن الرواية هى حاجة لكل متلقٍّ ولكل دار نشر وكلّ كاتب، وقد قدم إبراهيم فرغلى مجموعة قيّمة، لا تتشابه الأحداث فيها بقدر ما تشابهت طريقة الحبك والصياغة، ولعل استغلال فرغلى لكل المواقف السريعة التى أثّرت فيه وخلقت لديه فكرة لقصة، فلم يهملها ويختار إحداها ليكتبها رواية، لهو العنصر الذى يُحسَب للكاتب ويُشكر عليه.