د. سحر شريف تعد المقاربة الموضوعاتية من أهم المقاربات النقدية فى التعامل مع النص الأدبى شعراً ونثرًا، فقد ظهرت فى أوروبا إبان ستينيات القرن العشرين مع موجة النقد الجديد متجاوبة مع تيار (ما بعد الحداثة)، مع تصاعد النقد المضمونى، وانتشار القراءات التأويلية والأيديولوجية، وولادة التحليل الوصفى البنيوى واللسانى. ويهدف النقد الموضوعاتى إلى استقراء التيمات الأساسية الواعية واللاواعية للنصوص الإبداعية المتميزة، وتحديد محاورها الدلالية المتكررة والمتواترة، واستخلاص بنياتها العنوانية المدارية تفكيكًا وتشريحًا وتحليلًا. يتسق مصطلح (الموضوعاتى) Thématique فى الحقل المعجمى الفرنسى من كلمة Thème ، وهى التيمة، وترد هذه الكلمة بعدة معان مترادفة كالموضوع، والغرض، والمحور، والفكرة الأساسية، والعنوان، والحافز، والبؤرة، والنواة الدلالية. ولقد اتفق عدد كبير من النقاد على أن التيمة هى الفكرة المتواترة فى العمل الأدبى، وتستعمل أحيانًا بمعنى الحافز، كثير التواتر .ويتجه بعض النقاد إلى ترجمة كلمة Thématiqueالفرنسية إلى كلمة الجذر؛ لأن الجذر الدلالى بمثابة خلية النص الرحميّة التى توحد النسيج النصى، وتجمع شتاته المبعثر على رقعة النص فى خيط يجمع جمل النص فى تركيبة دلالية موحدة تخدم فكرة معنوية، يفرض بها النص على المتلقى فكرًا وأيديلوجيا، فتُولد الرؤى والأفكار. وينبغى أن نفرق بين الجذر والفكرة الرئيسية، فالجذر هو التنويعات الضمنية للفكرة، مثل الدوال اللغوية والإيقاعية وحمولتها الدلالية التى تخدم (التيمة). تحدد المقاربة الموضوعاتية العنصر المتواتر فكريًّا؛ لتحديد البنية الدالة المهيمنة على النص. وبقراءة مجموعتَى «ما وراء القمر»، و «الرجل الذى عادت إليه ذاكرته»، تطالعنا تيمة الموت فى قصص المجموعتين بوصفها إحدى وجهى العملة (الموت والحياة)، فلا حياة بغير موت، فهو نهاية الرحلة المحتومة. وبالرغم من صدور المجموعتين على فترتين زمنيتين متباعدتين، وقد مر بينها أكثر من ثلاثين سنة، إلا إن فكرة الموت نراها موجودة بقوة فى القصص. أولاً: تجليات الموت فى النص الموازى: يصدر سلماوى مجموعة (ما وراء القمر) بعبارة مقتبسة من كتاب (السحر فى مصر القديمة) لجيرالدين نبشن تقول: «العالم الآخر عند المصريين القدماء هو دوات الذى يقع فيما وراء القمر، وباستطاعة الأرواح التى تسكنه أن تنتقل ما بين العالمين كلما أرادت.» هكذا، تسيطر الفكرة على المبدع، الموت وما بعده ورحلة الأرواح بين عالمين، ثم يطالعنا عنوان الجزء الأول من قصص المجموعة (الكُتاب لا يموتون)، ويتضمن هذا الجزء قصصًا معنونة ب (لحظة الحقيقة - الجياد السوداء – وصية الأستاذ)، وتشير إلى صور مختلفة لحقيقة ثابتة، وهى الموت، فالموت هو لحظة الكشف الحقيقية حيث يشف الغطاء، وتظهر الحجب الخفية أمام المحتضر، وكذا الخيول السوداء الكبيرة المخيفة التى استقاها صاحبنا من التاريخ الأسود للقتل والإعدام حيث يُربط المحكوم عليه لتمزقه الخيول السوداء شرّ ممزق. أمّا عنوان (وصية الأستاذ)، فيشى بالموت حيث تكون وصايا الموتى لمن يخلفونهم فى الدنيا، ويحمل الجزء الثانى عنوان (دماء البحر) حيث يكمن الموت الأحمر الدامى فى البحر العميق المتلاطم الأمواج، وعلى شواطئه الصفراء الساخنة. أما الجزء الثالث، فيحمل عنوان (رسائل ما بعد الرحيل)، وفيه قصص عمن رحلوا رحيلًا مفجعًا، مثل أسمهان الفنانة المعروفة تلك التى انتهت حياتها بجريمة غادرة. وفيها أيضًا نقرأ قصة شجرة اللوز التى تُحتضر بعد حياة حافلة بالعطاء زهرًا أبيضَ، وثمارًا شهية، ويتزامن احتضارها مع صاحبتها بطلة القصة التى تحتضر هى الأخرى فى المستشفى. وفى قصة (باطمن عليكي) نجد الابن الراحل عمرو يطمئن على والدته برسالة صوتية مسجلة على هاتفه بعد رحيله. وفى قصة (الرجل الذى عادت إليه ذاكرته) يموت البطل موتًا معنويًا حيث ينسى اسمه وهويته، ويهيم على وجهه ليستقر فى أحد أقسام الشرطة. وفى قصة (عودة النشيد)، تحدث المعجزة، وينطق القبر، ويعود الأموات للحياة؛ ليرددوا النشيد، وينتقل على الألسنة حتى يعم البلاد كلها صوتٌ واحد قوى ينشد للحق والجمال. ويخيم الموت على قصة (عناق تحت الأنقاض)، ويشى العنوان به، فالأنقاض لا تحمل سوى الخراب والموت والهلاك. ويأتى عنوان (قتلت أمي) معلنًا الحضور الطاغى لتيمة الموت فى أبشع صوره، وهى القتل، فما بالنا بقتل الأم. ثانيًا: تجليات الموت فى الشخصيات القصصية: تتبدى لنا تيمة الموت فى شخصيات المجموعتين واضحة بارزة، حيث تعود بعض الشخصيات من العالم الآخر، أو عالم ما وراء القمر عند المصريين القدماء، فها هو يوسف إدريس، يعود منه فى إسبانيا حيث يقابله الراوى فى (الكوريدا)، حلبة مصارعة الثيران، ويبدى الراوى دهشته: «لكنه مات 1991م». «عجبت لحديث يوسف إدريس فما حكاه لتوه هو بالضبط أحداث روايته التى قرأتها منذ حوالى 25 سنة، قال: « .. لقد أكملت الآن أحداث الرواية فى ذهنى، لكنى أبحث لها عن عنوان. هل سمعتك تقول: «رجال وثيران؟» ،إنه عنوان جيد هكذا وسأسميها..» كما تعود المطربة أسمهان إلى الحياة، فى القصة التى تحمل عنوان (اسم هان) حيث تكتب الشخصية العائدة إلى الحياة خطابًا إلى المؤلف: «قد تعجب أن يصلك خطاب من أسمهان بعد رحيلها عن هذه الدنيا بأكثر من سبعين عامًا، لكنك تعرف بحكم كونك كاتبًا أن الفنان لا يموت..» كما يعود (عمرو) فى قصة (باطمن عليكي) إلى أمه الثكلى فى رنة الرسالة من الهاتف المحمول بعد وفاته. «بكت وهى تتذكر عمرو، وتمنت بكل كيانها لو أن المكالمة كانت بالفعل منه كما تموّيها قبل رحيله. ولم لا تكون المكالمة بالفعل من عمرو؟ ربما أراد أن يطمئن عليها من العالم الآخر! أو أنه أراد أن يرسل لها إشارة بأنه لم ينسها.» كذلك يعود الموتى من القبور فى قصة (عودة النشيد)، وهى قصة رمزية تشير إلى موت الثائرين من أجل أن يحيا الوطن. تبرز تيمة الموت فى قصص المجموعتين من خلال تجسيد الشخصيات الهالكة اليائسة، ففى قصة (الجياد السوداء .. وقائع انتحار كاتب مصرى فى المنفى)، يقرر البطل وهو كاتب مصرى مهاجر إلى إنجلترا بعد قيام ثورة يوليو أن ينهى حياته بنفسه. «خبر انتحارى سيكون بالطبع موضع اهتمام الأوساط الأدبية، فلماذا أترك مكانه شاغرًا فى مذكراتى هذه، وكأن الموت داهمنى فجأة؟ كأن ملاك الموت هو الذى اختار موعد رحيلى، ولم أختره أنا؟ سأكمل قصتى بنفسى ... الآن أستطيع أن أبتلع مزيدًا من الحبَّات .. اثنتين .. أربع .. ست .. ثمانى .. تسع حبات صببتها من الزجاجة، وابتلعتها بمزيد من الشراب.». ويخيم الموت على قصة (وصية الأستاذ)، حيث يموت الأديب الكبير ذائع الصيت ذو الشهرة العالمية، فى بداية القصة، وتنتهى بموت الحاكم الظالم صريعًا فى جنازته فى مشهد ساخر عبر عنه العنوان (قصة خيالية من وحى واقعة فعلية)، إذ يكمن الخيال فى تصور نهاية الحاكم الظالم بعبوة ناسفة وضعها الثوار فى نعش الأديب الكبير تنفجر فى جنازته العسكرية التى يحضرها ذلك الحاكم. «وانفجر الجثمان كجسد استشهادى شاب ربط أصابع الديناميت المفجرة حول خصره، وصهلت الخيل التى كانت تجر عربة المدفع، وخرت نافقة، أمّا الرئيس فتناثرت أشلاؤه فى الهواء، ولم يعثر له على جسد ولا كانت له جنازة.» وفى قصة (ثمانية أيام)، يحلق طائر الموت فوق رؤوس الشباب المهاجرين فى مركب صغير فى عرض البحر الهائج متلاطم الأمواج. «ظل طائر الموت يحوم فوق المركب بجناحيه السوداوين طوال فترة افتراس جسد زميلنا الإرتيرى، فخيمت على المركب حالة من الرعب والكآبة أخرست الجميع.» أمّا الموت المجانى الغادر فيتلون بلون الدماء الحمراء فى قصة أطفال الشاطئ، حيث يحصد أرواح الأطفال الفلسطينيين الذين يلعبون على الشاطئ فى غزة. وفى قصة (يهود وعرب) تصطاد الطائرات الإسرائيلية المعادية الأطفال؛ عهد وزكريا ومحمد وإسماعيل واحدًا تلو الآخر، بلا رحمة. وفى قصة (21 طلقة)، يغتال زبانية العذاب أرواح الأسرى الواحد والعشرين. «لم يكن قد تناول الطعام طوال الأيام الثلاثة الأخيرة، فكان يعلم أن زبانية الموت الذين اقتادوه إلى هذا المكان هو وزملاؤه العشرين يصومون ضحاياهم ثلاثة أيام قبل أن يذبحوهم، وهذا هو اليوم الثالث، لابد أنه اليوم المحتوم.» وفى قصة (شجرة اللوز) تموت زوجة الراوى موتًا يتزامن وموت شجرتها الأثيرة التى طالما روتها وراعتها، وشهدت أيامًا دافئة يانعة بين الزوجين. وفى قصة (عناق تحت الأنقاض) يبرز الموت مخيفًا على يد الطائرات الإسرائيلية التى شنت هجومًا ضاريًا على الضواحى اللبنانية الجنوبية، يستحيل المبنى إلى أنقاض تضم تحتها عبلة وعدنان اللذين يعترفان بحبهما لأول مرة فى هذا الموقف الرهيب، وهما يلفظان أنفاسهما الأخيرة. «بل سنتزوج الآن يا عدنان! سأذهب لأتى بشيخ مسلم أو قس مسيحى ليزوجنا فورًا. إن الحياة قصيرة، ولا يجب أن نفترق بعد اليوم. ونسيت أن الطائرات الإسرائيلية كانت دائمًا تعود لتمطر الموقع الذى قصفته بوابل جديد من النيران، يقضى على كل الجرحى الذين نجوا من القصف الأول.» وهكذا سيطرت فكرة الموت على قصص المجموعتين مما يشى بفلسفة يؤمن بها المبدع محمد سلماوى، فالموت هو الحقيقة الوحيدة فى الحياة بحتميته، وحضوره الطاغى، والموت من نصيب الظالمين والإرهابيين والغاصبين وغير المنتمين، أمّا الكتاب الكبار والفنانون العظماء والأبطال والثوار والمجاهدون فهم أحياء عند ربهم، يخلد التاريخ ذكراهم، وتحفظهم قلوب محبيهم مدى الحياة.