تتحرك القاهرة بهدوءٍ وثقةٍ وحِكمةٍ وعقلانيةٍ على رقعة شطرنج الشرق الأوسط الجديد، متأهبةً بكل جِديةٍ لسيناريوهات الخطر، ومتحفزةً للتصدى لمخططات التقسيم الفلسطينى والانقسام العربى. تُدرك جيدًا أن الشرق الأوسط تغيَّرت صورته القديمة تمامًا، انهارت أنظمة وتشظَّت جيوش، تغيَّرت خريطة التحالفات، وانشغلت قوى إقليمية بتبادل المقاعد داخل لعبة كراسى موسيقية تتولى واشنطن العزف فيها على إيقاع مصالح تل أبيب. لا تُريد إسرائيل جيوشًا وطنيةً ولا دولًا موحَّدةً، وتُفضِّل الاستثمار فى الأقليات والميليشيات المسلحة من أجل تفتيت المحيط العربى المُحيط بالدولة العبرية كالطوق حول الرقبة. لا تُخفى الحكومة المتطرفة فى تل أبيب مخططاتها، وتتحرك لإعادة هندسة الإقليم دون أن تُخفى آثار أقدامها، تُشهر سلاح التهجير القسرى للفلسطينيين باتجاه مصر والأردن، وتصفية الدولة الفلسطينية عبر إعادة احتلال قطاع غزة مُعتمدةً على الدعم العسكرى القادم من البيت الأبيض، وتسليحٍ يتدفَّق دون حسابٍ من البنتاجون. تُتابع مصر كل ذلك، وتُدرك أهمية الوقت فى التصدِّى لما يجرى، وكانت حركتها سريعةً وذات رسائل قوية فى توقيتها؛ وهى أن مصر لن تقف مكتوفة الأيدى أمام مُخطط الإضعاف والانقسام، وكان ردها على التحركات الإسرائيلية للإساءة للعلاقات المصرية القطرية؛ بالبدء فى جولة خليجية محطة البداية فيها هى الدوحة؛ للتأكيد على عمق العلاقات المصرية القطرية، وأهمية التعاون المصرى القطرى فى عملية التهدئة ووقف العدوان الإسرائيلى عبر التفاوض النشط مع كل الأطراف. لم تلتفت مصر لِما يُردِّده الإعلام الإسرائيلى من محاولاتٍ للوقيعة، وكان ردها على الأرض باللقاء الأخوى الذى جمع الرئيس عبد الفتاح السيسى والشيخ تميم بن حمد آل ثانى، أمير دولة قطر، وتأكيد الزعيمين العربيين على متانة العلاقات والثقة المتبادلة ومركزية القضية الفلسطينية، والتمسُّك بحل الدولتين كأحد ثوابت السياسة الخارجية المشتركة بين مصر وقطر. ثم كان الإعلان عن حزمة استثمارية قطرية بقيمة وصلت 7.5 مليار دولار أمريكى، وهى إشارة شديدة الأهمية من الجانب القطرى على نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادى وتعدُّد الفرص الاستثمارية وتنوعها داخل السوق المصرى. ثمَّنت مصر وقطر جهد سلطنة عُمان فى المفاوضات غير المباشرة بين الولاياتالمتحدةوإيران؛ لارتباطها المباشر بخفض التصعيد والتوتر فى المنطقة، والمنتظر منها الوصول إلى اتفاقٍ يُجمِّد الصراع الساخن المستمر لسنوات، ويمنح المنطقة فرصةً لالتقاط الأنفاس، وهو ما تُعوِّل عليه مصر وقطر مع وجود مؤشرات على موقفٍ أمريكىٍّ مختلف يبحث عن صفقة جديدة. وهناك تحركات بالفعل كشفت عنها الصحف الأمريكية عن رفض إدارة الرئيس دونالد ترامب تنفيذ ضربة إسرائيلية ضد طهران فى مايو المقبل، وفشل نتنياهو فى إقناع ترامب بالمضى قدمًا فيها، مبدأ الصفقة تغلَّب على فكرة الضربة، لكن ذلك لم يمنع ترامب من زيادة ضرباته العسكرية ضد الحوثيين حلفاء طهران، وتطويق إيران بالسلاح الأمريكى المُكثَّف؛ بحثًا عن مزيدٍ من التنازلات من جانب طهران. أما إيران فتدخل المفاوضات منهكةً ومُتعبةً من الضربات المُتلاحقة، وانهيار حلفائها ونزع سلاحهم، وتسعى لإرضاء الداخل، وضمان رفع العقوبات وعودتها للأسواق، ولذلك أتوقَّع أن الصفقة أقرب من الضربة. ما تنتهى إليه المفاوضات بين إيرانوالولاياتالمتحدة سيكون له تأثيرٌ على الوضع فى غزة والمفاوضات الجارية للتهدئة وبحث مستقبل اليوم التالى، والذى تسعى مصر وقطر بكل قوة لأن يكون وفق هندسة عربية، تُحافظ على الحق الفلسطينى. وكان الاستقبال الحافل للرئيس السيسى فى الكويت ومرافقة الطائرات الحربية لطائرة الرئاسة المصرية دليلًا آخر على عمق العلاقات المصرية الكويتية، التى تشهد طفرةً مميزةً فى عهد أمير دولة الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، والذى أثنى على دور الرئيس السيسى فى إيقاف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وخفض التصعيد بالمنطقة، وكذلك الجهد المصرى المبذول من أجل إعادة الاستقرار فى السودان وإخراجه من مِحنته. وكان واضحًا فى البيان الختامى لزيارة الرئيس أن الجانب الكويتى يُتابع عن كثبٍ تحسُّن المناخ الاستثمارى فى مصر، والعمل الجاد من أجل تذليل أية عقبات أمام المستثمرين الكويتيين، وبناءً على ذلك كان الاتفاق على الاستفادة الكويتية من الفرص الاستثمارية المُتعددة لدى مصر، وتحديدًا فى مجالات الطاقة والزراعة والصناعة وتكنولوجيا المعلومات والتطوير العقارى والقطاع المصرفى والصناعات الدوائية. كما أعلنت الكويت عن مشاركتها الفعَّالة فى المنتدى الاستثمارى المصرى - الخليجى الذى سيُعقد بالقاهرة خلال العام الجارى، وهو نجاحٌ آخر يُحسب لبرنامج الإصلاح الاقتصادى وزيادة الثقة فيه بعد توالى شهادات الثقة الدولية فى الاقتصاد المصرى والنظرة المُستقرة والإيجابية لمستقبله. وفق مؤشرات عديدة نحن أمام جولة خليجية ناجحة على المستويين السياسى والاقتصادى، ونجاح جديد للدبلوماسية الرئاسية فى صياغة علاقات مصرية خليجية تعيش أقوى مراحلها، وتُؤكِّد أن العمل العربى المُشترك يُمكن الرهان عليه فى التصدِّى لمخططات الانقسام بالهندسة العكسية المصرية، وبما يُحقِّق المصالح العربية المُشتركة، ويحفظ فى الوقت ذاته لكل دولة خصوصيتها فى التعامل مع القضايا الإقليمية وفق رؤيتها ومصالحها. لا شك أن السياسة الخارجية المصرية الساعية لتغليب التكامل والشراكة فى العلاقات العربية أصبحت محل ثقة لدى القادة العرب، وهى تنطلق من الرغبة فى التهدئة، وفتح الباب أمام الشراكة فى التنمية واستثمار الفرص الواعدة فى ظل حربٍ تجارية عالمية لا يعلم أحدٌ متى وكيف ستنتهى، ووضعت العالم فى حالة ضبابية أثَّرت على مناخ الأعمال وزادت من الترقُّب والتوجُّس داخل الأسواق العالمية، وهو ما يستلزم عملًا وجهدًا مشتركًا مصريًا خليجيًا لاستثمار الفرصة وتنمية الاستثمارات المُشتركة بما يعود بالنفع على الجانبين، وهو ما سيكون له تأثير مباشر وحضور مؤثِّر وفعَّال فى ميادين السياسة والاقتصاد العالمى.