هكذا علم مصر يحمله من يصونه ويحمى معناه ويعمل جاهدا على الإسهام فى استمراره خفاقا عاليا على مسرح الأوليمبيا بباريس فى 13 نوفمبر 1967 كانت وقفة أم كلثوم تشدو للوطن عقب هزيمة يونيو 1967، فى فترة استعادة النفس والتقاط الأنفاس والإعداد لحرب رد الأرض وغسيل ما لحق بثوب الوطن من بقعة سوداء. كيلو متر كامل غطاه طابور من الجمهور العربى وقف مشدوها له الشارع الفرنسي، ثم وقفوا هم أيضا بين من ينتظمون الطابور رغبة فى الحصول على تذكرة لحفلة هذه السيدة المبهرة على المسرح الشهير، ساعات من الانتظار تحمل شوقا لمشاهدة أم كلثوم فوق المسرح لحما ودما وصوتا لم ولعله لن يتكرر فى تاريخ البشرية بذبذباته الفريدة المعجزة. اجتمع هذا الجمهور أيضا يقوده طوفان من الاحترام والتقدير لمشاطرتها الوطنية وهى تتبرع لتشدو لصالح المجهود الحربى دعما لجيش بلدها مصر وكرامة وطنها الأكبر العربى إزاء شراذم شذاذ الآفاق الذين ابتليت بهم أرض العرب تنفيذا لمطامع الاستعمار فى خيرات وموقع هذه البقعة من العالم. وقفت الآلاف من محبى الغناء وعشاق صوت كوكب الشرق فى انتظار تذكرة تحملهم على أجنحة الخيال وبساط الأحلام يحلقون مع الوطن تارة وهى تشدو: «أجل إن ذا يوم لمن يفتدى مصرا» ويرفعون الهامات إعجابا براية الوطن يرددون مع الست: «عيشوا كراما تحت ظل العَلَمِ»، ويتمايلون مع القلب الجريح تارة أخرى وهو يصرخ «أعطنى حريتى أطلق يديا.. إننى أعطيت ما استبقيت شيئا»، وتعود بهم الأشواق مع المدح النبوى وبكل الجدية والحسم رسالة تحث على القوة والمغالبة: «وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا». وتحتار الصحافة الفرنسية والعالمية وهى تراقب الأمر وتطير بأنبائه وتفاصيله إلى قرائها عن هذه السيدة التى تحمل هموم وطنها وتلتحف بالعلم المصرى وترفعه خفاقا يشحذ الهمم ويلقن الوطنية فيخاطب الرجل بحماسه والشاب بثورته والأم بعاطفتها، فلا يكاد الناس يستشعرون أن هناك مأزقا يقع فيه هذا الوطن ولا منزلقا يندفع إليه شبابه وفتياته، بل يستمد الجميع حماسهم وإيمانهم بالوطن من مثل هذا العطاء الذى سجله الإعلام العالمى بسطور تبهر القارئ وتشحنه بطاقات من الحب والعطاء وتخطى الكبوة العارضة. هكذا كان علم مصر يحمله من يصونه ويحمى معناه ويعمل جاهدا على الإسهام فى استمراره خفاقا عاليا، حتى وهناك من يهدد صواريه أو يحاول النيل من علوه وتساميه. وتصف الصحافة الفرنسية الحفل وصاحبته بدهشة، فقد قالت جريدة «فرانس سوار»: «سيبقى يوم 13 نوفمبر 1967 يوما مشهودا فى تاريخ صالة «الأوليمبيا».. ويقول «كوكاتريكس» مدير ومالك المسرح: «حضر زوار غير مألوفين فى الأوليمبيا قطعوا آلاف الكليومترات.. الفرنسيون احتلوا 20% من المقاعد رغم حاجز اللغة، اليهود الشرقيون حضروا بكثافة، ويؤكد أنه لمح أحد أصدقائه اليهود «مهاجر»، فاستغرب من وجوده فأجابه الأخير إنها أم كلثوم». ولم تكن أم كلثوم وحدها فى هذا السياق وقد مضى فى نفس الركب كل نجوم ونجمات الطرب والتمثيل يتنقلون هنا وهناك بقطار الفن يحيى همم الناس ويشحذ عزائم الجنود ويرفع معهم وبينهم علم مصر عزيزا، ولا يتوانون عن الطيران خارج الحدود متبرعين متدافعين لنيل شرف دعم المجهود الحربى، فتتلقاهم جماهيرهم من المصريين والعرب بحفاوة ويبادلونهم حماسا بحماس وحبا للوطن من داخله بحب ممن هم خارجه، باذلين ما يستطيعون من دعم مادى أو معنوى .. إن العلم المصرى هو راية عزيزة خفاقة يستظل بها المصريون ويبذلون كل غال ورخيص ليحافظوا عليه، مستمدين منه الأمان ومادّين إياه بالعطاء والجدية وجمال الإبداع فنا وتصنيعا وتربية وتعليما وتثقيفا للعامة وتزكية للنفوس وتهذيبا للوجدان وحفظا للقيم والأصالة واحترام الذات واحترام هذا الرمز الغالى. إنما يحمل علم مصر من يصونه بين المتيقظين وليُعاقب كل من يهينه بين المخمورين، هو لمن يقدسه لا من يدنسه، لمن يحميه لا من يرديه.