ولد مؤلف الكتاب البريطانى سيدنى ألفريد سميث فى «ركسبورج» بنيوزيلندا فى 4 أغسطس سنة 1884، ودرس الطب فى جامعة إدنبرج» بإنجلترا ليتخرّج سنة 1912، أحب الطب الشرعى من البدايات، وكان يمارسه مع طب العيون، لكن عندما وجد نفسه غير قادر على الموازنة بينهما لم يتردد، وتخلى تماماً عن طب العيون، ولما كان الطب الشرعى تخصصاً دقيقاً، اختار معه تخصصاً آخر، وبالفعل حصل على «دبلومة» فى الصحة العامة، وعلى «الماجستير» مع مرتبة الشرف عام 1914، وقتها قررت الحكومة المصرية اختيار مساعد لطبيبها الشرعى «هاملتون»، تقدم «سميث» للوظيفة وجرى قبوله، وعندما استغرق التصديق على القرار وقتاً طويلًا، قرر الالتحاق بوظيفة فى القطاع الصحى الحكومى فى بلاده، واندلعت الحرب العالمية الأولى سنة 1914، وتطوع للخدمة العسكرية فى عدة معسكرات إلى جانب عمله الصحى المدنى. اقرأ أيضًا | عميد طب قصر العيني يستقبل نظيره من جامعة كريستيان ألبريشت بكيل الألمانية فى سنة 1917، مات د. هاملتون - الطبيب الشرعى لمصر فى ذلك الوقت - وأبرقت الحكومة المصرية تطلب «سميث» ليحل محله، مع تكليفه بإلقاء محاضرات فى الطب الشرعى فى كلية قصر العينى، ووافقت حكومة نيوزيلندا، وأبحر فى سفينة عسكرية إلى الشرق الأوسط، وتولى مسئولية قطاع الطب الشرعى فى القاهرة الذى كان يتبع هيئة النيابة فى وزارة العدل، وكان فريق العمل يتكون من طبيبين مصريين، وعدد من الكتبة والمساعدين، وتتلمذ على يديه عشرات الأطباء المصريين العظام فى مجال الطب الشرعى من خلال محاضراته فى كلية طب قصر العينى، وفى عام 1924 أصدر «سميث» بمشاركة د. عبد الحميد عامر، كتاباً باللغة العربية بعنوان «الطب الشرعى فى مصر»، وبعد أن قضى أحد عشر عاماً فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين، عاد الرجل إلى بلاده ليتولى عدة مناصب فى مجال الطب الشرعى، وليحقق فى قضايا كبرى، وجرى تعيينه عميداً لكلية الطب بإدنبرج، وساهم فى كشف وحل ألغاز قضايا جنائية عديدة فى أيرلندا، واسكتلندا، وأستراليا، وسيلان، وحظى بتكريمات عديدة، وفى سنة 1955 استقبلته كلية طب قصر العينى فى مصر وجرى تكريمه، ثم تقاعد الرجل، ورحل عن دنيانا فى 9 مايو 1969 باسكتلندا عن عمر ستة وثمانين عاماً، وقبل وفاته بعشرة أعوام، وتحديداً فى عام 1959 جمع «سميث» تجاربه وشهاداته فى مجال كشف الجرائم من خلال الطب الشرعى فى مختلف الأماكن، والبلدان التى عمل بها وأصدرها فى كتاب يحمل عنوان: «على الأرجح.. قُتل»، وعنها يقول المترجم مصطفى عبيد: « تبقى مذكرات الرجل ماتعة، وهى تقدم بشكل تفصيلى كيف يعمل الطبيب الشرعى كمخبر، ومحلل للأحداث، وكيف يستنطق الجثث، ويعيد إضاءة مسرح الجريمة، ويتتبع الآثار لُيخّلص بريئاً، أو يثبت الإدانة على مجرم، ولهذا فقد سمحت لنفسى أن أستبعد عنوان المذكرات الأصلى وهو «على الأرجح.. قٌتل»، لأضع عنواناً أقرب لما استشعرته خلال ترجمتى للحكايات، وتنقلى من صفحة إلى أخرى، وهو «قارئ الجثث»، إذ يبدو الحاكى هنا أشبه بقارئ للجثث، مهمته استهداف الحقيقة، بغرض وحيد هو مقاربة العدالة خدمة للبشرية». ثلاث عظام صغيرة يبدأ الكتاب فى سرد الحكايات، والوقائع، والقصص التى تضمنتها مذكرات د. «سميث» بواقعة جرت فى سنة 1917-وقد ذكرها «سميث» أيضًا فى كتاب «الطب الشرعى فى مصر» الذى أصدره باللغة العربية عام 1924 بالمشاركة مع الطبيب المصرى عبد الحميد عامر - وجاءت تحت عنوان: «ثلاث عظام صغيرة»، وفيها يقول المؤلف: « بدت اللفافة المختومة معتادة المشهد بعد أن قمت بفضها، إذ كانت تحتوى على ثلاث عظام صغيرة، ولم يتضمن تقرير الشرطة المرفق مع اللفافة أية ملاحظات لافتة، لقد وجدت العظام فى قاع بئر، جرى إعادة فتحها بعد سنوات من عدم الاستخدام، ولم يكن لدى الشرطة أى سبب للتشكك فى الأمر جنائيًا، من هنا اقتصر الطلب على تحديد ما إذا كانت هذه العظام تخص إنسانًا أم حيوانًا»، ويمضى «سميث» قائلًا: «بعد أيام من الفحص والدراسة، كتبت لهم تقريرًا قلت فيه: إن هذه عظام سيدة شابة، قصيرة القامة، نحيلة القد، يتراوح عمرها بين 23 و25 عامًا عند وفاتها، والتى مر عليها ثلاثة أشهر، وذكرت أن ساقها اليسرى أقصر قليلًا من ساقها اليمنى؛ لذا فإنها مصابة بعرج ناتج عن مرض شلل الأطفال منذ صغرها، وأضفت فى تقريرى أنها قتلت ببندقية محشوة بطلقات مصنعة محليًا، وأطلق عليها الرصاص من مسافة ثلاث ياردات»، وقد منحت هذه القصة الشرطة خيطاً للوصول إلى جريمة كاملة، بعد أن عرفوا أن هناك شابة قصيرة، ونحيلة تبلغ من العمر 24 عامًا اختفت فى قرية مجاورة منذ بضعة أشهر، وقامت الشرطة باستجواب الأب الذى بدا مرتبكًا، ومتناقضاً فى أقواله فجرى احتجازه، واتهامه بقتل ابنته، وبعد قليل انهار الرجل تمامًا، واعترف بأنه كان ينظف بندقيته، ولم يكن يعلم أنها معمرة، وفجأة انطلقت منها عدة رصاصات، أصابت الضحية، وحاول تمريضها، لكنها ماتت بعد أسبوع من الإصابة، وخوفًا من الوقوع فى مشكلات اضطر إلى إلقاء جثتها فى البئر التى لم تكن مستخدمة منذ سنوات طويلة، وبعد مرور أيام هبط إلى البئر، وأخرج بقايا الجثة المتحللة نتيجة الطقس الحار، وألقى بها فى النيل، وترك العظام الثلاث اعتقادًا منه بأنه أخفى الأدلة كافة، لكن لسوء حظه، فإن تلك العظام كانت تحتوى على كل شىء يمكن أن يحكى القصة كاملة». الحادث انتحار ويمضى المؤلف فى سرد قصته مع الطب الشرعى، وأساتذته الذين علموه الطب فى جامعة «إدنبرج»، والمواقف التى تعرض لها بعد تخرجه وكيف ساقه القدر إلى أن يختار التخصص فى مجال الطب الشرعى الذى يحتاج إلى ثلاثة أشياء للنجاح، وهى: قوة الملاحظة، وقوة التخمين، ونطاق واسع من المعرفة الدقيقة، كما أوضح «أبقراط»-منذ نحو 2500 سنة - أهمية الملاحظات القريبة لكل التفاصيل، وأوصى بالدراسة الشاملة للمريض، والبيئة المحيطة به قبل تشخيص مرضه، وهذه النصيحة نافعة فى مجال الطب عامة، أما فى مجال الطب الشرعى فلها أهمية قصوى، ويضيف «سميث»: «أن الطب الشرعى يتم استدعاؤه فى بعض الحالات لتقديم دليل سواء من جانب المدعى، أو من جانب الدفاع، وأن الطبيب الشرعى يجب ألا يتأثر بتصورات الشرطة عن الجريمة، لأن اكتشافاته الجديدة يمكن أن تنسف قضية تتصور الشرطة أنها كاملة الأركان أو العكس»، وهنا يلقى المؤلف الضوء على أهمية تتبع الأدلة، التى تؤدى إلى نجاح أو فشل التحقيقات، فضباط الشرطة الذين يعاينون مسرح الجريمة مسئولون عن حماية كل شىء قد يكون مفيدًا فى تفسير الأحداث، ليصبح جاهزًا للطب الشرعى لدراسته، فهم ينتظرون من الطبيب أن يخبرهم بسبب وطريقة الوفاة، وإن كانت طبيعية أم بفعل جنائى؟، وإن كانت حادثة أم انتحارًا، أم قتلًا، وكيف ماتت الضحية؟، ومتى كان توقيت الوفاة؟، وللإجابة عن هذه التساؤلات يجب الكشف عن كثير من الحقائق ليجرى وضعها معًا لصياغة رواية، مثل: معدل تبريد الجثة، فترة التصلب، فترة تغير اللون بعد الوفاة، حالة الطعام فى المعدة والأمعاء، حالة الدم ومكوناته، وكثير من الأمور الأخرى المشابهة، كذلك فإن درجة تيبس الميت يمكن أن تقدم كثيرًا من المعلومات المهمة، ويقدم لنا نموذجا جليًا لذلك من خلال قصة وقعت أحداثها فى مصر- أثناء توليه مسئولية الطب الشرعى - خلال عشرينيات القرن الماضى، ويحكى فيها: «عندما وجدنا جثة موظف بريطانى ملقاة على إحدى ضفاف النيل، مصابًا برصاصة فى الرأس، وكان القتيل شابًا أعزب، يتمتع بصحة جيدة، وليس له أعداء، وغير متورط فى علاقات نسائية، أو مشكلات مالية، ولم يترك الضحية أى رسائل انتحار، غير أن القتل السياسى العشوائى كان منتشرًا فى مصر فى ذلك الوقت، حيث عثر على أكثر من شخص بريطانى مقتول فى ظروف غامضة، لذا فقد أثارت القضية ضجة عالية فى بريطانيا، وكان من الضرورى ترجيح ما إذا كان القتل متعمداً أم غير ذلك؟، وهنا كان للطب الشرعى الكلمة الأخيرة، وبعد فحص دقيق للجثة ظهرت تفصيلتان مهمتان، الأولى أن هناك حزًّا صغيرًا فى إحدى أصابع يده اليمنى والثانية، أن الصديرى والقميص اللذين يرتديهما كانا بلا أزرار، وبدا منطقيا أنه خلع الصديرى والقميص خلال قيامه بإطلاق الرصاص على نفسه فى القلب، لقد كانت تفصيلات صغيرة، لكنها كانت دليلًا مهمًا يؤكد أن الحادث انتحار. أقوى طب شرعى بداية من الفصل الرابع وتحت عنوان «مغامرات فى مصر»، يبدأ المؤلف «سيدنى سميث» فى سرد تجربته، ومغامراته فى مصر بعد توليه مسئولية قطاع الطب الشرعى، والذى بدأه بمراجعة كافة الجرائم المهمة التى جرت فى جميع أنحاء البلاد، وكانت أولى المشاكل التى واجهته هى عدم وجود معمل خاص بالقطاع، وأن معظم التحليلات، والأنشطة العلمية الأخرى يتم إجراؤها فى المعامل الحكومية، أو فى كلية الطب، ونجح فى تأسيس معامل لصالح الطب الشرعى، والعمل على تطويرها بشكل سريع بإضافة التصوير الفوتوغرافى، وأشعة «إكس»، وتأهيل بعض الكتبة للقيام بأعمالها، وخلال سنوات قليلة أصبح لدى مصر أقوى قطاع طب شرعى فى العالم. ويمضى المؤلف فى سرد وقائع العديد من الجرائم؛ والقضايا التى استطاع من خلالها تقديم أدلة علمية تسببت فى نفى اتهامات ضد متهمين أبرياء اعتماداً على شهود زور، والمساعدة فى الوصول إلى الجناة الحقيقيين، ويؤكد أن رأى الخبير الشرعى قد يكون مصيريًا، وقد يؤدى بإنسان إلى الموت؛ أو يحرره تمامًا، وقد أكسبه ذلك احترامًا؛ وتقديرًا، وثقة لدى كثير من الهيئات القانونية لدرجة استدعائه كخبير فى كثير من القضايا الجنائية، وهكذا صارت تقارير الطب الشرعى معتمدة؛ ومقبولة سواء من جانب الادعاء؛ أو الدفاع. أخطر الجرائم فى الفصل الخامس من الكتاب وتحت عنوان «مهنة القتل»، يحكى لنا «سيدنى سميث» تفاصيل قصة أخطر الجرائم التى عرفتها مصر فى تاريخها، وأثارت الفزع والرعب فى نفوس الناس فترة طويلة، وجرى تقديمها فى عدة أعمال فنية، وهى قضية «ريا وسكينة»، وعنها يقول: خلال صيف سنة 1920 أرسلت إلىَّ عظمة وحيدة من الإسكندرية، ولم تكن لدىّ أية فكرة عن أن هذه هى البداية لواحدة من أكثر القضايا إبهارًا خلال مشوارى المهنى، فقد كان هناك مجموعة من العمال يحفرون مصرف مياه على جانب الطريق، وانهار الشق فجأة، وبين الركام لمح أحد العمال العظمة؛ وقام بالتقاطها، وقدمها إلى الشرطة، وبعد عرضها علىّ وقولى أنها تخص إنساناً قررت الشرطة التنقيب فى المكان، وسريعاً ما اكتشفوا أجزاء أخرى من هيكل عظمى، كان واضحاً أنها قادمة من أسفل منزل مجاور لشق المصرف، وذهبت إلى الإسكندرية، وأجريت معاينة للمنزل، وأمرت بحفر أرضيته على مسئوليتى، لتتوالى حكايات مرعبة، كان أول جسد عثرنا عليه قريباً من سطح الأرض يخص أنثى شابة فى هيئة حفظ جيدة تدل على أن الدفن لم يمر عليه وقت طويل، وأن سبب الوفاة كان الخنق، ثم وجدنا جسداً آخر على مقربة منه شبيهاً به، وتوالى ظهور الأجساد؛ وكأننا عثرنا على مقبرة جماعية، جثث ممددة مثل السردين تحت أرضية غرفة واحدة، جميعها فى درجات متفاوتة، لكن أقدمها دفناً كان منذ عامين، وماتت بطريقة واحدة وهى الخنق، ولم تكن الشرطة على معرفة بهذه الجرائم، إذ لم يسجل أى إبلاغ عن اختفاء النسوة، واستطعنا تحديد هويات الجثث بعد مراجعة ملفات النساء المسجلات ضمن العاهرات، وجرى القبض على ملاك البيت؛ وهما شقيقتان تدعيان ريا وسكينة، وزوجيهما، وفى المحكمة عرفنا التفاصيل فقد كانت ريا وسكينة تلتقطان ضحاياهن بعناية بالغة من بين الداعرات الناجحات فى عملهن بعد أن يوهمهن بلقاء أثرياء قادرين على الدفع جيداً، وبعد وصول الضحايا إلى المنزل يمضى الأمر بسهولة شديدة؛ حيث تقدم القهوة، والمشروبات انتظاراً لوصول الزبون، وفى أثناء ذلك يقوم زوجا ريا وسكينة بسد أنف الضحية من الخلف لتفقد وعيها سريعاً؛ ثم يجرى تجريدها من ملابسها وحليها ليوضع جسدها إلى جوار زميلاتها تحت الأرض، وأدينت ريا وسكينة وزوجاهما بتهمة قتل النساء وجرى إعدامهم. مقتل السير «لى ستاك» انطفأت الاضطرابات الأهلية فى مصر سنة 1923، وأنهيت حالة الطوارئ، وجرى السماح لسعد زغلول بالعودة؛ والمشاركة فى الانتخابات، وأصبح رئيساً للحكومة فى يناير 1924، وفى سبتمير ذهب «سعد» إلى لندن لإجراء محادثات مع الحكومة البريطانية، وانهارت هذه المحادثات سريعاً بسبب مقتل السير «لى ستاك»، سردار الجيش البريطانى فى السودان، فى نوفمبر 1924، خلال تجواله فى شوارع القاهرة نهاراً، وكانت هذه ذروة الجرائم السياسية التى مثلت بداية العمل لمدة خمس سنوات فيما يسمى بالمقذوفات الجنائية، فعلى الرغم من أن هذه القضية كانت واحدة من عدة قضايا لعبت فيها الاختبارات المعملية دوراً مهماً، إلا أنها اعتبرت علامة فارقة فى تاريخ تحقيقات الجريمة الحديثة، وكانت لها ردود أفعال كبيرة على مستوى العالم، إذ جرى اعتماد اختباراتى لفحص الأسلحة والمقذوفات والاعتداد بها فى دولة بريطانيا، وعندئذ صار هذا العمل يمثل جانباً مهماً من أعمالنا فى الجرائم العادية كافة، وهكذا أمكن إدخال المقذوفات الجنائية ليصبح فرعاً من الطب الشرعى. بعيداً عن الجثث! لم يقتصر الكتاب على تجارب «سيدنى سميث» فى التعامل مع الجثث فى القضايا والجرائم المختلفة، وإنما احتوى على عدة قصص يمكن أن نعتبرها طريفة أو خفيفة، أو مسلية إلى حد ما، وتخرج القارئ من أجواء القتل والحرق والشنق، وأيضاً تظهر أن الحس الساخر لدى «سميث» حاضر وقوى؛ وهو يقص علينا بعض الوقائع والأحداث التى مر بها فى مصر؛ وخارجها أثناء عمله كطبيب شرعى فى مصر؛ أو «إنجلترا»، ومنها على سبيل المثال ما رواه المؤلف عن قصته مع شفيق منصور، أحد المتهمين قى مقتل السير «لى ستاك»، واتباعه طريقة جديدة ومستغربة فى بلاد الشرق - حسب وصف المترجم مصطفى عبيد - فى انتزاع الاعترافات من المتهم، فبعد فشل جهات التحقيق فى الحصول على أية معلومات من شفيق منصور وإصراره على الإنكار؛ ومحاولته التظاهر بالجنون، جرى استدعاء «سيدنى سميث» للكشف عليه، وأوصى أن يبقى «شفيق» دون إزعاج مع تقديم الوجبات الشهية والجيدة له ونقله إلى سجن آخر أكثر راحة، وأن يمنح فرصة للتريض خارج السجن، وأن يعامل معاملة كريمة، وقبل أن يمر أسبوع واحد على هذا التغيير فى المعاملة قرر أن يعترف بكل شىء! رشوة عكسية أما القصة الثانية فرواها المؤلف أثناء حديثه عن الفساد والمحسوبية، والرشوة المتفشية فى مصر- سواء بين المصريين أو الأجانب - فى ذلك الوقت، وعنها يحكى: سألنى يوماً أحد الأصدقاء الأوربيين إن كنت أعرف السيد «إكس» القاضى بأحد المحاكم المختلطة، فقلت إننى أعرفه جيداً، وسألنى: هل يمكن أن أرسل إليه صندوق «شمبانيا» فإن لى دعوى استئناف مقامة أمام دائرته؟، فقلت له: إن الرجل بالغ النزاهة، ولو أرسلت إليه هذا الصندوق فقد يعاقبك وتخسر دعواك، وشكرنى السائل، ومضى متفكراً، وبعد أكثر من أسبوع رأيته وقال لى إنه كسب الدعوى المقامة أمام القاضى «إكس» وأن الفضل يعود إلى صندوق «الشمبانيا»، فاندهشت، فقال لى إنه أرسل صندوق «الشمبانيا» إلى القاضى باسم الطرف الآخر فى الدعوى!. العودة إلى «إدنبرج» فى عام 1927 مات «ليتل جون»؛ ممثل الطب الشرعى فى «إدنبرج، وأرسل مجلس كلية الطب فى «إدنبرج» خطاباً إلى «سيدنى سميث» فى القاهرة يسأله عن رغبته فى التقدم إلى هذا المنصب؛ ووافق، وبالفعل غادر مصر بعد أن قضى أحد عشر عاماً، ويصف مشاعره أثناء العودة قائلاً: «ودعت الأيام المشرقة فى مصر؛ والتى كانت أفضل الأيام؛ وأكثرها تقديراً، وكان رحيلى إلى جامعة «إدنبرج» حزيناً». ويضيف: «لقد قمت بنقل خبرات معملى فى القاهرة للمساعدة فى القضايا العويصة؛ وللمشاركة فى تحقيقات الموت غير الطبيعى، وكانت الشرطة تستعين بى فى قضايا معينة للبحث عن أدلة مختفية، وشعرت بأننى أفتقد الكوادر الفنية المتوفرة فى القاهرة، والقادرة على التعاون معى فى هذه القضايا». ويواصل «سيدنى سميث»؛ عرض تجربته الشائقة سارداً فى بقية فصول الكتاب حكاية وراء أخرى؛ من قصة بطلها بصمات الأصابع إلى قصة تكشف ملابساتها قطعة ملابس أو «وشم» على جسد الضحية، من حادثة انتحار فى «آبردين»؛ إلى جريمة قتل فى «سيلان»، من حادثة خنق إلى قضية إجهاض، حتى حكاية قرش سيدنى العجيب، وفى كل حكاية يروى التفاصيل بدقة متناهية، كاشفاً عن كواليس خفية لم تكن لتتضح لولا براعة الطبيب الشرعى، ويعقبها الشرح العلمى للحالة، وكيفية التقاط وتتبع أمور قد تبدو صغيرة للبعض؛ لكنها فى غاية الأهمية فى طرق البحث عن حقيقة ما حدث، وتسهم فى أن يسلك الطب الشرعى سبيله الصحيح فى الكشف عن ملابسات ما حدث فى الخفاء بعيداً عن أعين الجميع، وسط كل هذه القضايا التى ساهم فى حل ألغازها؛ ظلت تجربة «سيدنى سميث» فى مجال الطب الشرعى فى مصر حاضرة معه بقوة، وهو ما بدا واضحاً جلياً فى الفصل الثامن عشر من الكتاب تحت عنوان «حادث.. أم انتحار.. أم قتل؟»؛ حينما ذكر بعد تحقيق فى جريمة قتل حاول القاتل أن يخدع المحققين، ويوحى لهم أنها انتحار؛ وليست قتلاً، وبعد أن كشف عن الحقيقة قال «سميث»: «كل شىء فى الشرق ممكن؛ ولا يخضع لقواعد وقوانين ثابتة»، ويعلق عليها المترجم قائلاً: «هذه العبارة توحى بأن بلاد الشرق، وخصوصًا مصر مثلت محطة خبرات عظيمة للطبيب الإنجليزى؛ لأن الواقع كان أكبر من القواعد، والقوانين العلمية الافتراضية»، فالرجل يشعر بامتنان تام لسنواته التى قضاها فى مصر، ففى كل قضية يقابلها يجد مثالاً سبق ومر به فى مصر.