«شوف الزهور واتعلّم».. كلمات شدت بها كوكب الشرق أم كلثوم، معبّرة عن سحر الزهور وبهائها. لكن ما قد لا يعرفه الكثيرون هو أن هذه العلاقة العاطفية مع الزهور لها جذور ضاربة في عمق التاريخ، فقد كان المصري القديم أول من عشق الزهور وجعلها جزءاً من تفاصيل حياته اليومية. لم تكن الزهور مجرد زينة أو رمز جمالي، بل كانت لغة حب، وعلامة تقدير، وعلاجاً شافياً، ودليلاً على رقي حضارة سبقت عصرها. أولى المصريون القدماء اهتماماً بالغاً بالزهور والورود، وجعلوها جزءاً أساسياً من طقوسهم اليومية والدينية والاجتماعية. فقد أظهرت النقوش المحفورة على جدران المعابد والمقابر أن الزهور كانت حاضرة في مختلف المناسبات، من حفلات الزواج إلى المراسم الجنائزية، وكان الورد وسيلة راقية للتعبير عن المشاعر، خاصة بين الأزواج، ما يدل على أن الرجل المصري القديم كان رومانسيًا بحق، يعرف كيف يبوح بمحبته بلغة الطبيعة. ووفقًا للدارسين، عُرف في مصر القديمة أكثر من 27 نوعًا من الزهور، لكن خمسة منها كانت الأبرز استخدامًا وتداولًا، وهي: زهرة البردي: رمز للنهضة والنماء، واستخدمت في الزينة وفي صناعة الورق. زهرة اللوتس: مقدسة لدى المصريين القدماء، تعبر عن الخلق والنقاء والتجدد. زهرة الخشخاش: دخلت في الصناعات الطبية كمسكن للألم. زهرة العنبر: استخدمت في تحضير العطور والبخور الفاخر. زهرة الماندراك: لعبت دوراً هاماً في معالجة الأورام والأوجاع. 1. زهرة البَردي (Papyrus) تُعد زهرة البردي من أشهر الرموز في الحضارة المصرية القديمة، وكانت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمصر السفلى، إذ كانت تنمو بكثرة في دلتا النيل. لم تكن زهرة جمالية فقط، بل كانت أيضًا مصدرًا لصناعة الورق الذي سُجلت عليه النصوص الدينية والعلمية، ما جعلها أساسًا للتوثيق والكتابة. استخدمها المصريون كذلك في صناعة القوارب الصغيرة، والحصير، والسلال، وكانت ترمز للحياة والخصوبة والنهضة. 2. زهرة اللوتس (Lotus) اللوتس هي الزهرة المقدسة بامتياز في مصر القديمة، وكانت ترمز للنقاء والتجدد والبعث، لكونها تتفتح مع شروق الشمس وتغلق عند غروبها. ظهرت بكثرة في النقوش، خصوصًا في المعابد والمقابر، وكانت تقدم كقربان في الطقوس الدينية. كما ارتبطت زهرة اللوتس بالإلهة إيزيس وأسطورة خلق الكون، وكان الملوك يحملونها في أيديهم كرمز للقوة الروحية والتوازن. 3. زهرة الخشخاش (Poppy) كانت زهرة الخشخاش ذات استخدامات طبية بالغة الأهمية، خاصة في تسكين الآلام ومعالجة بعض الأمراض. استخرج منها المصريون القدماء مركبات مخدّرة استخدمت في علاج الأوجاع الشديدة والأورام. وجدت هذه الزهرة في وصفات طبية مدونة على البرديات الطبية مثل بردية إبيرس، وتدل على مدى تطور المعرفة الطبية عند الفراعنة. اقرأ أيضا| حكاية أثر| «الأرواح لا تفترق».. لقاء أبدي بظل شجرة الجميز المقدسة 4. زهرة العنبر (Amber Flower) رغم أن العنبر يُعرف أكثر كمادة عطرية بحرية، فإن المصريين القدماء ربطوا اسمه أيضًا بنوع من الزهور ذات الرائحة الفواحة التي كانت تُستخدم في صناعة البخور والزيوت العطرية. كانت هذه الزهرة جزءًا من طقوس التطهير والتعطير في المعابد، واستخدمت في تجهيز الموتى. وكانت رائحتها تُعد رمزًا للنقاء الروحي والتقرب من الآلهة. 5. زهرة الماندراك (Mandrake) تُعرف زهرة الماندراك بأوراقها العريضة وجذورها المميزة، وقد اعتقد المصريون القدماء أن لها قوى شفائية وروحية. استُخدمت بشكل واسع في معالجة الأورام والأمراض الجلدية، كما دخلت في وصفات طبية لعلاج العقم وتسكين الأوجاع. وقد ظهرت في رسومات طبية تعود لعصر الدولة الحديثة، ما يعكس إلمامهم بالنباتات ذات الخواص العلاجية القوية. بهذا يتضح أن الزهور لم تكن مجرد زينة أو ترف حضاري في مصر القديمة، بل كانت جزءًا أصيلًا من الحياة اليومية، تحمل دلالات عاطفية، دينية، طبية، وجمالية. فكان الورد حقًا "لغة الفراعنة" التي عبروا بها عن الحب، وسجلوها على جدران الزمن. الورد كان حاضراً في نحو 70% من المناسبات الاجتماعية والدينية، وهو ما وثقته النقوش في العديد من المواقع الأثرية، أبرزها مقبرة عالم النباتات "نَخت" في البر الغربي بالأقصر، التي كشفت عن تفاصيل دقيقة لطقوس تقديم الزهور واستخدامها. كما كان للورد والزهور دور طبي هام، إذ استُخدمت بعض الأنواع في تركيب الأدوية والعلاجات، مثل زهرة الخشخاش لتسكين الآلام، وزهرة الماندراك لعلاج الأورام، ما يعكس مدى تطور الطب النباتي لدى الفراعنة. وإلى جانب الطب، تفوّق المصري القديم في صناعة العطور، حتى أصبحت مصر القديمة رائدة في هذا المجال، فكانت الزهور تُقطف بعناية وتُستخدم لاستخلاص أجود الزيوت العطرية، التي كانت تُصدّر إلى الشرق والغرب.