في قلب شارع المعز لدين الله الفاطمي، يتلألأ التاريخ من بين حجارة تتكلم، وزخارف تحكي، وأبواب تنفتح على قرونٍ من المجد والفن والعلم. مجموعة السلطان المنصور قلاوون، أحد أبرز سلاطين الدولة المملوكية، تقف شامخة إلى اليوم كتحفة معمارية خالدة تجمع بين مدرسة وضريح وبيمارستان. لم يكن قلاوون مجرد سلطان حاكم، بل كان راعيًا للعلم والطب والدين، وقد ترك إرثًا معماريًا وفكريًا لا تزال شواهده قائمة في قلب القاهرة الإسلامية. في كل يوم، نُفتح صفحة من كتاب التاريخ، ونغوص في حكاية من حكايات الزمان، حيث تلتقي الأسطورة بالحقيقة، وتنسج الأزمنة سطورها على جدران الحوائط والمآذن. في هذا الركن الساحر من القاهرة، وتحديدًا في صحراء المماليك، نقف اليوم أمام معجزة معمارية تروي بفخر حكاية دولة عظيمة صنعت المجد وخلّدت الجمال. هنا تجد الحكايات تنبع من قلب التاريخ، وتمشي بجوارك في الأزقة، وتهمس في أذنك بأسرار السلاطين ومعاليك والسلطانات. حكايتنا اليوم، يحكيها لنا الدكتور مصطفى وزيري، عالم الآثار والمصريات، ليفتح لنا بوابة نحو ماضيٍ مجيد، وبطله السلطان الأشهر «السلطان المنصور قلاوون»، وبينما نستمع إلى تفاصيل حكاية مجموعة السلطان المنصور قلاوون، لا ننسى أن هناك سلاطين سبقوه، وتركوا لنا مجدًا معماريًا خالدًا... وعلى رأسهم السلطان المنصور قلاوون، صاحب واحدة من أعظم المجموعات المعمارية في التاريخ الإسلامي. في هذا التقرير، نستعرض تفاصيل هذه المجموعة المعمارية البديعة، ونغوص في تاريخ أبرز معالم شارع المعز، من مسجد ومدرسة الناصر محمد، إلى قصر الأمير بشتاك، مرورًا بحمام إينال ومعبد موسى بن ميمون، وغيرهم من الكنوز الأثرية التي تشهد على عبقرية العمارة المملوكية وتنوعها. ◄ مجموعة السلطان المنصور قلاوون أنشئت في عام 683–684 ه/1283–1284م، وتُعد من أجمل وأكمل المجموعات المعمارية في عصر المماليك البحرية، حيث جمعت بين الوظيفة الدينية (مسجد)، والتعليمية (مدرسة)، والطبية (بيمارستان)، إضافة إلى القبة التي تُعد ضريحًا للسلطان قلاوون نفسه. تتميز واجهتها بمدخل ضخم مزخرف بزخارف هندسية ونباتية وكتابات قرآنية، مزينة بالذهب والفضة، ما يجعلها من أروع واجهات العمارة الإسلامية. وقد خُصص البيمارستان لعلاج الأمراض العصبية والنفسية، وهو لا يزال يعمل حتى اليوم كمستشفى للعيون والأسنان. ◄ مسجد وسبيل سليمان أغا السلحدار بُني في عام 1253 ه/1837م في عهد محمد علي باشا، ويتميز بتصميمه العثماني ذي المئذنة الرشيقة والسبيل الملحق به. ويدل على تطور الفن العثماني المتأخر في مصر من حيث الزخرفة ودمج العناصر المعمارية. ◄ المدرسة الكاملية أسسها الأمير الكامل محمد بن العادل الأيوبي في القرن السابع الهجري، وهي من أقدم المدارس التي ما زالت تحتفظ ببعض ملامحها. لعبت دورًا مهمًا في تعليم المذاهب الفقهية، وقد زخرفت بكتابات كوفية رائعة. اقرأ أيضا| أصل الحكاية | حكاية العيد والعيدية والصلاة بجامع الناصر محمد بن قلاوون بالقلعة ◄ سبيل عبدالرحمن كتخدا شُيد في عام 1744م، ويُعد من التحف المعمارية التي تمثل الطراز العثماني في بناء الأسبلة. تميز بتصميمه البديع وزخارفه الرخامية، وكان يزود المارة بالماء النقي، ما يعكس روح الوقف الخيري في تلك الفترة. ◄ مسجد ومدرسة الناصر محمد بن قلاوون أمر ببنائها السلطان الناصر محمد بن قلاوون عام 703 ه/1304م، وتُعد من أبرز إنجازاته المعمارية. يشتهر المسجد بمئذنته الفريدة وزخارفه الدقيقة، وكانت مدرسته من أهم المراكز التعليمية للمذهب المالكي في القاهرة. ◄ قبة الصالح نجم الدين أيوب تعود إلى عام 647 ه/1249م، وتُعد من أقدم القباب الملكية في القاهرة الإسلامية، وتحتوي على ضريح السلطان الصالح نجم الدين. تميزت القبة بزخارفها البسيطة ولكن المهيبة، وتعكس بداية تطور الطراز القاهري في القباب. ◄ مسجد السلطان برقوق بُني في عام 786 ه/1384م في عهد المماليك الجراكسة، ويعد من أروع المساجد الجامعة من حيث التصميم والفخامة. تضمن مدرسة وقبة لضريح السلطان برقوق، وتميز بمنبره الخشبي وزخارفه الدقيقة. ◄ معبد موسى بن ميمون بحارة اليهود يرجع إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وهو من أبرز المعالم الدينية لليهود المصريين. موسى بن ميمون هو أحد أعلام الفقه والفلسفة اليهودية، وكان طبيبًا في البلاط الفاطمي. لا يزال المعبد يُستخدم كموقع أثري ومزار ثقافي. ◄ حمام إينال أُنشئ في القرن التاسع الهجري في عهد السلطان إينال، ويُعد من أهم الحمامات العامة التي حافظت على عناصرها الأصلية، مثل بيت النار وغرفة البخار. يعكس استخدام الحمام كجزء من الحياة اليومية في العصر المملوكي. ◄ قصر الأمير بشتاك بناه الأمير بشتاك في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، ويقع على شارع المعز مباشرة. يُعد نموذجًا فريدًا للقصور السكنية المملوكية، ويضم مشربيات خشبية وزخارف جصية رائعة. بهذا، تُجسد مجموعة السلطان قلاوون ومحيطها من المعالم التاريخية والروحية متحفًا مفتوحًا في قلب القاهرة، حيث تتقاطع العمارة مع العقيدة، والطب مع العلم، والتاريخ مع الحاضر. وتبقى هذه الآثار نوافذ نطل منها على عظمة الحضارة الإسلامية في أبهى تجلياتها، ودعوة دائمة لاستكشاف الكنوز المخفية بين أزقة القاهرة العتيقة.