ما بين تصحيحًا للمسار، ومن اعتبروه تقييدًا لحركة البحث والتعبير داخل مؤسسات الثقافة والمعرفة، كان لسان حال الأمر التنفيذي المثير للجدل، الذي أصدره الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب بنهاية شهر مارس الماضي، والخاص بمؤسسة سميثسونيان. جاء الأمر تحت عنوان "استعادة الحقيقة والعقلانية للتاريخ الأمريكي"، إذ رآه البعض، أنه يحمل في طياته توجّهًا سياسيًا واضحًا لإعادة رسم ملامح السرد التاريخي الأمريكي، حيث دعا إلى مراجعة محتوى المعارض والبرامج التابعة للمؤسسة، مطالبًا بإزالة ما وصفه ب"الأيديولوجيات غير المناسبة" التي تشوّه التاريخ الأمريكي من وجهة نظر ترامب، مستهدفًا ثلاث متاحف منها المتحف الوطني للفنون، والمرأة الأمريكية، والمتحف الوطني للتاريخ والثقافة الإفريقية الأمريكية. اقرأ أيضًا| «عكس نهج ترومان».. رسوم ترامب تضع حلفاء أمريكا «في أقرب نقطة» للصين -ما هي مؤسسة سميثسونيان؟ تأسست مؤسسة سميثسونيان في القرن التاسع عشر على يدالعالم البريطاني جيمس سميثسون، والذي أوصى بإرثه لإنشاء مؤسسة "لزيادة المعرفة ونشرها"، حيث تجاوزت ميزانيتها "مليار دولار" في العام الماضي فحسب. تعد "أكبر متحف ومجمع تعليمي وبحثي في العالم" ، يضم أكثر من 150 مليون قطعة أثرية، 21 متحفا، و21 مكتبة بالإضافة إلى العديد من المراكز البحثية أبرزها، مركز ويلسون للبحث ومناقشات السياسات حول القضايا العالمية ومراكز صنع القرار. مؤسسة سميثسونيان، ليست وكالة حكومية، بل "أداة ائتمانية" تابعة ل الولاياتالمتحدة، كما تعد ذات استقلالية إدارية وعلمية، يشرف عليها مجلس أمناء يضم رئيس قضاة المحكمة العليا، ونائب الرئيس، وثلاثة أعضاء من كل مجلس من مجلسي الكونجرس، وتسعة مواطنين معينين. -مشروع 2025 والمعركة علي التاريخ وفي سياق ما تمثله المؤسسة للتاريخ والثقافة الأمريكية، تشير مجلة"ذا نيويوركر" في أحدث تقاريرها إلي مشروع 2025، المثير للجدل والذي أعدته مؤسسة هيريتيج المحافظة كدليل استرشادي لولاية دونالد ترامب الثانية، تقول المجلة ، أن من ضمن بنود المشروع "المعركة علي التاريخ"، من خلال التصدي للإيدولوجيات اليسارية مثل سياسات الهوية، والعدالة العرقية، وبرامج التنوع والشمول وتقديم رواية وطنية أكثر تحفظًا. حيث قسمت فيه مؤسسة هيريتيج، أمريكا إلي قوتين متعارضتين: الأولي الثوار المستيقظون، والثانية المؤمنين بمُثُل الثورة الأمريكية"، بحسب المجلة ذاتها. وهو ما فسر بعد أسابيع من انتخاب دونالد ترامب علي يد المشاركين في المشروع، بصحيفة «وول ستريت جورنال»، أنه من أجل "غرس شوكة في قلب المستيقظين"، كان البيت الأبيض ملزمًا ب "استعادة السيطرة على المتاحف، بدءًا من مؤسسة سميثسونيان". وتوضح مجلة "ذا نيو يوركر" أن رغم نفي الرئيس الأمريكي، ترامب في حملته الانتخابية من عدم معرفة محتوي المشروع ، بقوله "لم ولن أقرأه أبدًا"، إلا أنه وفقا للمجلة، ينفذ مشروع 2025 تقريبًا بالحرف الواحد، وهو ما يظهر في أوامره التنفيذية والدعاوى القضائية وعدد من الإجراءات في محاولة لإتخاذ مواقف مؤيدة له. اقرأ أيضًا| من وعود الحماية لسباق التسلح.. هل تُجبر سياسات ترامب الحلفاء على امتلاك النووي؟ -وهو ما يطرح تساؤلا لماذا سميثسونيان؟ تمثل مؤسسة سميثسونيان، واحدة من أهم المؤسسات الثقافية والعلمية في الولاياتالمتحدة، وتُعد من أبرز الجهات التي تساهم في تشكيل الوعي العام بالتاريخ الأمريكي سيما وأنها تعرض وجهات نظر ليبرالية، خاصة في ما يتعلق بقضايا مثل العبودية، والتمييز العنصري، والتعددية الثقافية، والتاريخ الاجتماعي، ما اعتبره المحافظين، "تشويهاً" للتاريخ الأمريكي، وفقًا لما أشارت له مجلة «ذا نيويوركر» الأمريكية. لذلك جاء الاستهداف في سياق أوسع ضمن مشروع 2025، من خلال إعادة تشكيل مؤسسات الدولة، وتثبيت سردية وطنية محافظة، وتعزيز قيم "الفخر الوطني" في التعليم والثقافة، بإبراز الجوانب "الإيجابية والمشرقة" من الماضي الأمريكي، وتقليص مساحة النقاش حول الجوانب الأكثر جدلاً أو إشكالية في هذا التاريخ. وفي إطار توصيف المرحلة، دفعت المجلة الأمريكية، إلي تشبيه الإدارة الأمريكية الحالية بممارسات الأنظمة الاستبدادية، التي غالبًا ما تسعى إلى السيطرة على الذاكرة الجماعية من خلال حذف الصفحات المظلمة من الماضي وتسليط الضوء فقط على الجوانب الإيجابية، وذلك بالنظرمع توجه إدارة ترامب نحو إعادة تشكيل الرواية التاريخية الأمريكية. ووفقًا لهذا الطرح، لا يقتصر الأمر على تعديل محتوى المعارض أو المناهج، بل يتعداه إلى محاولة فرض سردية وطنية موحدة تمنع النقاش والنقد، ما يشكل تهديدًا للتعددية الفكرية وحرية البحث التاريخي. ومن هذا المنطلق، يعتبر كثير من المراقبين أن هذا التوجه يعكس ملامح سلطوية تسعى لإعادة كتابة التاريخ بما يخدم أهدافًا سياسية وأيديولوجية. هوس ترامب بالتاريخ لذلك خلصت مجلة «ذا نيو يوركر» إلى أن أسلوب إدارة ترامب في التعامل مع التاريخ يعكس ما وصفته ب"الهوس الانعكاسي للمستبدين"، حيث يظهر تناغم واضح بين هذا التوجه وبين ممارسات أنظمة سلطوية سابقة وحالية. فقدمت المجلة الأمريكية، أمثلة من التاريخ السوفيتي، حيث جرى تمجيد حياة لينين وتقديس ممتلكاته الشخصية، فيما مُنعت مناقشة أفكاره أو التشكيك بأيديولوجيته، وتشير أيضًا إلى أنظمة حديثة تبنت سياسات مماثلة من خلال فرض سرد تاريخي موحد وتهميش الأصوات المخالفة. وترى المجلة أن هذا النهج، رغم اختلاف السياقات، يشترك في السعي للسيطرة على الرواية التاريخية الرسمية، بما يخدم أهدافًا سياسية ويقيد التعددية في قراءة الماضي، وهو ما يجعل توجهات إدارة ترامب تتناغم مع هذا النمط من الحكم. اقرأ أيضًا| «ذا أتلانتيك» تحلل تداعيات سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على مستقبل التحالفات الدولية