قبل نحو 60 عامًا أجرت «آخرساعة» حوارًا مع الكاتب الكبير يوسف إدريس، بمناسبة فوزه بجائزة لبنانية مهمة، ويمكن اعتبار هذا الحديث أجرأ أو أخطر حوار مع الأديب الراحل، ربما بسبب وصفه لقصص نجيب محفوظ، الذي حصد جائزة نوبل في الأدب بعد 23 سنة من هذا الحوار، بأنها قصص «متوسطة الجودة» وأن محفوظ لا يحترم القصة القصيرة، رغم أنه «كاتب كبير عظيم».. نعيد نشر هذا الحوار النادر باختزال وتصرف محدود في السطور التالية: فاز الدكتور يوسف إدريس بجائزة مجلة (حوار) اللبنانية عن عام 1965، والجائزة قيمتها عشرة آلاف ليرة لبنانية، تمنح لكاتب خلاق من أى بلد عربي يكتب باللغة العربية الفصحى في مجالات الرواية أو القصة أو المسرحية أو الشعر.. بهذه المناسبة كان ل«آخرساعة» معه هذا الحوار: ■ نجيب محفوظ ◄ الدكتور موجود؟ - أيوه. جلست انتظر دوري.. ودخلت بعد أن خرج آخر مريض.. بينما الممرض يجرى خلفى صائحًا.. الكشف يا أستاذ. والتقيت الدكتور إدريس.. لقد عاد مرة أخرى إلى مهنة الطب، وكان قد هجرها منذ سنوات ليتفرغ للكتابة.. ترك المشرط وأمسك بالقلم وبدأ يكتب للناس، لكنه بدأ يشعر بحنين للطب فقرر أن يعود ليعالج الناس ولكن بدون مشرط وبدون جراحة وبدون ألم.. قرر أن يعالج الروح ويغوص فى أعماق النفوس ليزيل أحزانها وأمراضها ويعيد الراحة إلى القلوب بعد أن تخصص فى الأمراض النفسية وهذا النوع من العلاج فى رأيه نوع راق، ثم أن المتخصصين فيه عندنا قلائل جدًا. ■ الدكتور يوسف إدريس ◄ أرخص ليالي في الشرقية عاش الدكتور يوسف إدريس في قرية «البيروم» بمركز فاقوس، وفى عقله الصغير تجمعت ذكريات وأحداث مريرة من الحياة هناك، وعندما كبر وأصبح شابًا تمنى له أهله أن يصبح طبيبًا.. كانت الذكريات والتجارب القديمة تهزه بعنف، وتلح فى أن تخرج صارخة إلى الوجود، ولم يستطع الطبيب أن يمنع نفسه من الكتابة، بل ولا يعرف كيف بدأ يكتب، فسجّل بقلمه أروع وأصدق ما كتب عن الفلاحين وصراعهم من أجل الحياة الشريفة.. سجل مأساتهم بلا افتعال وبصدق فى «الحرام»، و«أرخص ليالي»، و«حادثة شرف»، و«ملك القطن». والسبب فى هذا الصدق أنه لم يكتب من الأبراج العاجية.. من عالم الخيال.. وأنه جاء من هناك.. من بين البسطاء.. من الأرض التى شهدت قصص الصراع من أجل الوجود المشرِّف. واستطاع يوسف إدريس أن يفرض وجوده فى حياتنا الأدبية، وبسرعة لمع اسم الطبيب الذى هجر مهنته ليتفرغ للأدب، وبسرعة أيضًا تربع وبدون مقدمات على عرش القصة القصيرة، ومرت سنوات وظهر مئات من كتاب القصة القصيرة، لكن أحدًا منهم لم يصل إلى مستوى يوسف إدريس، وكان ذلك أكبر تقدير لهذا الأديب. ◄ طريقة خاطفة والسبب فى عودة يوسف إدريس لمهنة الطب يرجع أولًا إلى أنه لا يعتبر الكتابة عملًا، لكنه يعتبرها نتيجة للعمل، ويقول إن الكاتب مثله مثل أى عضو فى المجتمع، فهو لكى ينتج أدبًا لا بد أن يعيش ككائن حي. ■ يوسف إدريس مع ابنيه في المنزل ◄ معنى ذلك أنك لا توافق على فكرة التفرغ؟ - إن الذين يتفرغون للأدب إنما هم فى الحقيقة ينعزلون عن الناس والمجتمع والحياة ويتقوقعون، والكاتب لا يكون أبدًا بهذه الصورة، فهو كما قلت مثله مثل أى عضو عامل فى المجتمع، يجب أن يعيش ككائن حي. أما اعتقاده واقتناعه بأنه يؤلف فقط فهذا يؤثر فى أصالة فنه ويبعده عن الحقيقة والواقع، وهو فى هذه الحالة لن يحلق أبدًا، ولن تكون فى كتاباته رائحة الحياة وطعمها، ولذلك فإنى لا أوافق على التفرغ بهذه الصورة. ◄ اقرأ أيضًا | مدير مطعم «خان الخليلي» يوضح تفاصيل عشاء السيسي وماكرون ◄ المؤلف «تايه» ولم يقتصر نشاط يوسف إدريس على كتابة القصة، بل دخل عالم المسرح فأحدث ضجة ولفت إليه الأنظار بعد مسرحيته الأخيرة «الفرافير» التى كانت من أهم الأحداث الفنية فى الموسم الماضي، وكتب إدريس مطالبًا بخلق المسرح المصرى الأصيل المستمد من تراثنا الشعبى ومن واقعنا الحقيقي، وهو يكتب الآن مسرحيته الجديدة التى سيقدمها المسرح القومى هذا الموسم، ولقد حاولت أن أعرف شيئًا عنها، لكنه كان حذرا وحريصًا ككل مرة. ويؤكد يوسف إدريس أن المسرح عندنا فى أزمة حقيقية بسبب قلة عدد المؤلفين المسرحيين الممتازين، لأن المؤلف الجاد «تايه» وسط المؤلفين الأصلاء الذين يغطى إنتاجهم الموسم المسرحى كله. ◄ المسرح في أزمة ويرى أن التمثيل لا يزال «طليماني»، ويقول إن عندنا حوالى ألف ممثل محترف، يحصلون على ألوف الجنيهات، ومع ذلك لا نستطيع أن نقول إننا فى حالة ازدهار تمثيلي، لأن كمية الخلق فى هذا التمثيل معدومة، وليس عندنا الممثل الذى يخلق فى دوره، ولكن عندنا ممثل يؤدى فقط، والاختلاف بين الممثلين يأتى من خلال اختلافهم فى الأداء فقط. أما الإخراج المسرحى فيقول إنه فى أزمة شديدة جدًا، لأن المخرجين العائدين من الخارج، يتعرفون على المدارس الموجودة هناك ثم يعودون ليطبقوها عندنا، والمطلوب من المخرج أن يقوم بعملية تأليف إخراجي، يذهب إلى الخارج ويرى التجارب ويتعرّف على المدارس المختلفة، وعندما يعود عليه أن يراجع تراثنا الشعبى وطريقتنا فى التمثيل والمبالغة والتجسيد.. عليه أن يقوم بعملية مزج جديد تتوافر فيها البساطة، ثم إن هناك موضة الكورس والديكور (المودرن) وهذه كارثة والمفروض أن يتكلم النقاد. ◄ فن جديد وقد انتهى يوسف إدريس من كتابة مجموعة جديدة من القصص القصيرة مقسّمة إلى قسمين، الأول قصص عادية، والقسم الثانى مرحلة جديدة يبدأها فى كتابة القصة القصيرة، ويقول عنها: إنها مرحلة مختلفة تمامًا، فبالتدرج بدأ يتكوّن لدى إحساس بأن القصة لا تزال تدور فى فلك تشيكوف، وأنه قد آن الأوان لأن تقفز بعده، فتشيكوف خطورته فى أنه كاتب سلس وسهل ورؤيته للعالم سهلة التقليد جدًا.. سهلة الانطباع، ومن الصعب التخلص منها، لأن عالمه عالم الناس البسطاء، فيه المفارقة المضحكة والتناقض الناعم وليس الصارخ. ويضيف: تشيكوف بهذا الشكل كان ملائمًا لأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لأن تناقضات العالم كانت ناعمة، أما القرن العشرون فهو قرن حاد عنيف ليس فيه «خلو البال» الذى اتصف به القرن التاسع عشر، والفن الذى يمثل روح القرن العشرين لا بد أن يكون أعنف لكى يهز إنسان القرن العشرين، لا بد أن يكون حادًا، الضحك فيه ضحك يهز الأعماق والبكاء لا بد أن يكون صادرًا من نخاع العظم.. لأن التناقضات الصارخة التى يعيش فيها الإنسان من الصعب استخراجه منها إلا بفن حاد. ◄ نجيب محفوظ وسألت يوسف إدريس عن رأيه فى نجيب محفوظ، فقال: نجيب محفوظ فى الواقع نجيبان.. نجيب الصنايعى الحرفى صانع القصة، ونجيب الفنان خالق الفكرة أو الموقف أو الشكل، وهو فى رواياته الطويلة صانع عبقرى فى صنعته.. والشيء الغريب وعلى عكس ما يعتقد الناس أننى أرى أن نجيب فى قصصه القصيرة فنان وصانع متوسط الجودة، وقد كان الهدف عنده هو العمل الفنى الضخم فى حد ذاته. وفى قصصه القصيرة الهدف عنده دائمًا فلسفي، قد يكون واضحًا أحيانًا إلى الدرجة التى تأخذ فيها القصة شكل الحدوتة المنتهية بحكمة، وأحيانًا يغوص الهدف إلى الدرجة التى يصل بها إلى كُتّاب العبث. أما ملحوظتي على نجيب فهى أنه لا يحترم القصة القصيرة، وهذا واضح فى تسميته لها ب»الأقصوصة»، وواضح فى أنه لا يدقق فى اختيار مواضيعها، ولا يهمه نجاحها أو فشلها، فى حين أن القصة القصيرة عمل لا يقل صعوبة أو قيمة عن الرواية الطويلة، والمجهود فى الرواية الطويلة مجهود عضلي، فى حين أن المجهود فى القصة القصيرة مجهود فنى شاق.. والوقت الذى يبذله كاتب الرواية فى الكتابة والتنفيذ يبذل كاتب القصة القصيرة أضعافه فى التأمل والتدقيق والاختيار.. لو أدرك نجيب محفوظ ذلك لأعطى احترامًا أكثر للقصة القصيرة ودورها، بالتالى لكتب ثلث العدد الذى يكتبه.. إن نجيب محفوظ كاتب كبير عظيم، ولأنه كذلك فأنا أعطى نفسى الحق باستمرار فى نقده لأن كتاباته ليست ملكه وحده، وبمجرد انتهائه منها تصبح ملكًا للجماهير، وإنى لأعجب كيف لم يجرؤ ناقد من نقادنا إلى الآن ويحاسب نجيب محفوظ على اتجاهه الذى بدأه ليعرف نجيب نفسه صدى هذا الاتجاه ومدى أصالته. ◄ وتوفيق الحكيم؟ - أنا مشتاق لقراءة عمل نثرى له، لأن كثيرًا من أعماله المسرحية الأخيرة لم تعجبني، وهو عندما يكتب النثر يعجبنى جدًا، فى حين أن توفيق الحكيم كاتب رواية لا يُساوى، وأسلوبه فى كتابة القصة من أجمل وأروع وأحب الأساليب. («آخرساعة» 3 نوفمبر 1965)