تعرفت على التجربة الهندية عن قرب، ليس فى دلهى وشوارعها ولا فى كالكتا وزحامها، بل فى واشنطن ومبانيها ونيويورك وأزقتها وحواريها بينى وبين الهند حكاية حب قديمة.. رغم أننى لم أسافر إليها حتى الآن ولم ألتق بها وجها لوجه إلا أن حبها لا يزال يتربع فى قلبي.. ربما كان لأفلام النجم اميتاب باتشان الفضل الأول فى ذلك الحب، كيف لا وكنت أقضى ثلاث ساعات وربما أكثر أمام هذا البطل الخارق الذى لا يشق له غبار وسط طبيعة خلابة جعلت الهند أحد أحلام الطفولة والشباب. هذا الحلم لم يمنعنى مع الأسف من الخوض مع الخائضين الذين كانوا يعتقدون أن الهندى شخص ساذج متواضع الفكر وهو ما كان يجسده التعبير الاستنكاري: «هو انت فاكرنى هندى». أتيح لى خلال السنوات الأخيرة التعرف على التجربة الهندية عن قرب، ليس فى دلهى وشوارعها ولا فى كالكتا وزحامها، بل فى واشنطن ومبانيها ونيويورك وأزقتها وحواريها. الخلاصة أننى أقر أنا الموقع أعلاه بأنى لن أعود للسخرية من الهنود، بل وأعتذر علانية وبشدة عن كل مرة قلت فيها لشخص كان يريد أن يستعبطني:»هو إنت فاكرنى هندي؟!».فالهندى أبدا ليس عبيطا أو ساذجا كما كنت وكثيرون مثلى نعتقد ذلك. ما يفعله الهنود فى الولاياتالمتحدةالأمريكية يصلح نموذجا لأى شعب يريد فعلا أن يجد له مكانا بين الأقوياء فى ذلك العالم الجديد الذى لا يعترف إلا بالأقوياء، ولا يلقى بالا لمن يجلس لا يفعل شيئا سوى السخرية من الآخرين، ظنا منه - وهذه هى الكارثة - أنه أفضل وأذكى منهم ! لا تخلو مؤسسة أمريكية مرموقة من هؤلاء الهنود الذين برعوا بالذات فى مجالات تكنولوجيا المعلومات وعالم البرمجيات والكومبيوتر والسوفت وير. حتى الهنود الذين فضلوا البقاء فى بلادهم ولم يجذبهم إغراء العيش فى الولاياتالمتحدة مثل أبناء جلدتهم، كثير منهم يعمل من داخل بلادهم فى شركات أمريكية متواجدة على أرض الولاياتالمتحدة، حيث تتعاقد كثير من شركات تكنولوجيا المعلومات مع هؤلاء الهنود المهرة للعمل معها اون لاين للاستفادة من فارق التوقيت بين البلدين، بمعنى أن ساعات العمل تبدأ فى الهند مثلا صباح السبت بينما الناس فى الولاياتالمتحدة لايزالون فى نهاية يوم الجمعة، وفى الوقت الذى يتجه فيه خبراء الكومبيوتر فى الشركة الأمريكية للنوم يتسلم زملاؤهم من الهنود العمل حيث يكون يومهم قد بدأ لتوه سابقا التوقيت فى أمريكا بحوالى أربع عشرة ساعة. وبذلك تستمر تلك الشركات فى العمل طوال اليوم للوفاء بالمطلوب من إنتاجها الذى يتلقفه العالم يوميا وينتظر كل جديد فيه من أفكار على أحر من جمر النار. لذا ليس غريباً أن يكون أشهر مثل هندى: من يركب النمر لا يستطيع أن يترجل. فالهنود ودعوا الأفيال وركبوا النمور والأسود وانطلقوا إلى طموح لا حدود له. الطريف أننى كنت طرفا ثالثا فى مناقشة داخل أمريكا بين اثنين من الأصدقاء تعرفت عليهما مؤخرا، أحدهما مهندس هندى اسمه شوكت نواز والثانى محاسب باكستانى يدعى فريد باي.وهما مهاجران من سنوات طويلة تخطت الثلاثين عاما، تخرج كل منهما فى بلده ثم سافر واستقر فى الولاياتالمتحدة. وبمجرد وصول كل منهما لأمريكا لم يكتفيا بما درساه فى بلديهما وكان يكفيهما ليجد كل منهما عملا، ولكن حرصا على استكمال الدراسة فى أمريكا لاكتساب اللكنة والخبرة فى التعامل مع المجتمع الأمريكى وهى من الأشياء التى لها دور كبير فى نجاح أى مهاجر من عدمه. الاختلاف الوحيد بينهما عرفته من المهندس الهندى الذى قال: أول ما يفكر فيه أى هندى يصل لأمريكا هو الدراسة أولا، بينما الباكستانى يكون كل همه البحث عن عمل أولا ثم يبدأ البحث عن الدراسة. لم يعترض الصديق الباكستاني. وأكد على كلام صديقه الهندى معللا ذلك ربما بالظروف الاقتصادية التى هى فى الهند أفضل بكثير من باكستان. لذا لا يجد الباكستانى أى عيب فى البدء بأى عمل طالما كان شريفا ولعل أسهلها قيادة التاكسيات أو الاتجاه للعمل فى المطاعم. فشلت فى إحداث فتنة بين الصديقين العزيزين، وبعد أن ضحكنا كثيرا توقف الهندى فجأة عن الضحك وسألني: أنت تعرف الآن عن ماذا يبحث الهندىوالباكستانى عند قدومهما لأمريكافالهندى يبحث عن الدراسة والباكستانى يبحث عن العمل، فقل لنا عن ماذا يبحث العربى عند وصوله؟! فكرت قليلا وسرحت كثيرا ثم قلت لهم بثقة: تريدون الحق أم ابن عمه؟ فقالا فى نفس واحد: الحق طبعا. فقلت لهما: بلاش تعرفوا أحسن. وعدنا للضحك من جديد !