في كتابه المصور «نهاية العالم» (Apocalypse) قدم فنان عصر النهضة الألماني ألبريشت دورر (1471-1528) 15 نقشا طباعيا تصور نبوءات من سفر الرؤيا، (الكتاب الأخير من العهد الجديد). وحقق كتابه رواجا كبيرا في عصره، حيث صور بصريا رؤى يوحنا اللاهوتي حول مستقبل الخليقة، وفق العقيدة المسيحية، والتي جرى تفسيرها طوال ألفى عام بطرق عديدة. لكن محاولات تصوير المستقبل فنيا، لم تقف عند العقائد الدينية، فقد شكل الأمر هاجسا للمبدعين على مدار التاريخ، وعكس أفكارهم وأحلامهم ومخاوفهم. ◄ نبوءات سفر الرؤيا نقشها ألبريشت دورر على خشب الكمثرى ◄ تصاميم مخترعات دافينشي صور للمستقبل برؤية عصر النهضة ◄ «الطريق السريع» ل«جون بايك» مستقبل تجاوزه الزمن ◄ المستقبليون احتفلوا بالسرعة والآلة ورفضوا الماضي ينفرد البشر من بين جميع الكائنات بترقب الغد كمستودع للأحلام، وكأرض مجهولة محفوفة بالمخاوف، ومفتوحة على الاحتمالات، وحتى كنبوءة بنهاية حتمية تثير الهلع، كل حسب أفكاره ورؤيته. وهو ما ظهر فى أعمال الفنانين الذين مثل المستقبل عندهم سجلا حافلا بهواجس الإنسانية وتطلعاتها. ■ لوحة مدينة ريو ضمن أعمال المستقبل الطوباوي للمدن للفنان كايو لوك ◄ نهاية العالم خلال رحلته إلى إيطاليا عام 1494 تطلع الفنان الألماني ألبريشت دورر إلى الاستفادة من منجزات فناني عصر النهضة الإيطالي، على مستوى تقنيات الرسم والمنظور وغيرها. ورغم ذلك حافظ على خصوصية خياله الجيرماني، واستغل براعته في الحفر والطباعة، لتنفيذ كتابه (Apocalypse)، جامعا النص المكتوب مع الرسوم. واستعان بحرفيين إيطاليين، لحفر رسومه على خشب الكمثرى، تمهيدا للطباعة. واستغرق الأمر أربع سنوات حتى صدر الكتاب متضمنا رسومه ل«رؤيا يوحنا»، التى ترجع إلى أواخر القرن الأول الميلادي، وتمثل نصا نبوئيا، مليئا بالرموز والغموض، ويتضمن رسائل وتحذيرات إلى الكنائس السبع، ورؤى سماوية تصف العرش، وتصور فتح المسيح للسر المختوم رمزا لسلطته على التاريخ، كما تتناول الأختام السبعة والأبواق السبعة والكوارث والوحوش المحدقة بالعالم، والصراع النهائي قبل الدينونة، والسماء الجديدة والأرض الجديدة، حيث السلام والوحدة مع الله بلا حزن ولا موت. وقد فسرت تلك الرؤى بطرق عديدة منها الحَرفي، والرمزي، والتاريخي، وألهمت العديد من الأدباء والفنانين مثل «دانتي أليجيري». وجاءت رسوم «دورر» فى وقت قلق، اعتقد فيه الناس باقتراب القيامة، وصاحبه اضطرابات اجتماعية واسعة في أوروبا. وركز فى رسومه على الفرسان الأربعة لنهاية العالم، فرسم الغزو والحرب والمجاعة والموت يدهسون البشر بفوضوية، انعكس هلعها على الوجوه. كما رسم صراع الخير والشر، والفساد الدينى ممثلا فى امرأة تركب وحشا ذا سبعة رؤوس، والزلازل الكونية والنهاية المأساوية التى تتحول إلى سلام سماوي. واعتبرت تلك النقوش طفرة فى مجال التعبير الفنى، حيث حفلت بالدراما والعاطفة وحركة الأجساد وتعبيرات الوجوه. وامتد تأثيرها إلى عدد من الفنانين، وبقيت كأحد أهم الأعمال التي صورت المستقبل كنبوءات دينية. ■ مدينة المستقبل عمل فني للفنانين جوتشي وفارفيتش ◄ تقدم تقني لعب التقدم التقنى دورا في تناول الفنانين للمستقبل، بداية من ليوناردو دافينشي الذي رأى بخياله الجامح وصمم آلات احتاج بعضها إلى أربعة قرون ليتجسد على أرض الواقع. وتمثل رسومه للمخترعات المدنية والحربية نبوءات علمية وتقنية للمستقبل، تضمنت آلات طائرة ومدرعات حربية ومظلات للقفز، وغيرها. لكن مع دخول عصر الصناعة واجتياح الآلة لحياة البشر بشكل غير مسبوق، أصيب الفنانون بالقلق، وظهرت روح تشاؤمية حول الغد فى أعمالهم. ومنها لوحة «المطر والبخار والسرعة» ل«جوزيف مالورد ويليام تيرنر» التى رسمها عام 1844 وتصور قطار السكك الحديدية كآلة تمثل المستقبل وسط مشهد ريفى غائم، يثير الريبة حول الطارئ الجديد الذى يحمل نذرا مقبضة. كما تعكس لوحة «يوم غضبه العظيم» للإنجليزى «جون مارتن» منتصف القرن 19، نبوءة تشاؤمية أيضا تتوقع نهاية كارثية للعالم. وقد استخدمت كغلاف لكتب دينية مثل «قداس نهاية العالم»، و«دراسات فى سفر الرؤيا». ورغم ارتباطها بنبوءات توراتية، إلا أن البعض يرى فيها توقعا للكوارث البيئية التى يشهدها العالم حاليا بسبب الإفراط فى الأنشطة الصناعية. كما جسّد «كاسبر ديفيد فريدريش» (1774-1840) شعور الرهبة والقلق فى لوحات مثل «المتجول فوق بحر الضباب» (1818)، والتى ترمز إلى الرحلة إلى مستقبل غير مؤكد. وعلى النقيض تبنى «جيه إم دبليو تيرنر» (1775-1851) الطاقة المحمومة للتصنيع كما فى «تيميراير المقاتل» (1839)، حيث وضع السفينة الشراعية القديمة إلى جانب القاطرة البخارية الجديدة، فى رمز للانتقال إلى مستقبل تهيمن عليه التكنولوجيا. وقد تنبأ كتاب «الفن والمستقبل» (1973) ل«دوجلاس ديفيس» بتنامى العلاقة بين العلم والتكنولوجيا والفن. ■ من لوحات اليوتوبيا للفنان دانييل كليبيس ◄ المستقبلية في عام 1909 صدر بيان الحركة المستقبلية بجريدة «لوفيجارو» الفرنسية، بصياغة الشاعر والباحث الإيطالى «فليبو توماس مارينيتى»، محتفيا بالسرعة والتكنولوجيا وعصر الآلة، ورافضا الماضى، لصالح مستقبل أكثر ديناميكية من صنع الإنسان الحديث. الحركة التى بدأت فى إيطاليا، كان لها أصداء سريعة فى أماكن أخرى من أوروبا وحتى روسيا. ونشأت متأثرة بالنظرية النسبية ونظرتها للزمن والضوء والحركة الدائمة للكون وأفكار مثل تحدب الزمكان وغيرها. ولا يخفى بعض التأثيرات الفكرية النيتشوية حول الإنسان الفائق، وازدراء ما أسمته أخلاق العبيد، فأعلن المستقبليون اشمئزازهم من العاطفية ومن كل ما هو تقليدى. وجاءت أعمالهم لتبشر بمستقبل صاخب، تتصدره الآلات. وأنتج فنانون مثل «أومبرتو بوتشيوني» (1882-1916) أعمالًا ديناميكية مثل «أشكال فريدة من الاستمرارية فى الفضاء» (1913)، والتى تجسد جوهر الحركة وتسارع الحياة فى عالم صناعى سريع. وتنقل أعماله شعورًا مبهجا بالتقدم، وساحقًا فى الوقت نفسه. كما تمثل لوحة «ديناميكية كلب مقيد» ل«جياكومو بالا» 1912 ولع المستقبليين بالحركة من خلال كلب يجرى، وأقدام سيدة تتبعه. وتمجد لوحة «قطار مدرع فى العمل» ل»جينو سيرفينى» 1915 الحرب والآلات، وقد رسمت فى العام الذى دخلت فيه إيطاليا الحرب العالمية الأولى، وتعكس إعلانا للحركة تحت عنوان «الحرب محرك للفن». كما جاءت تصاميم المعماريين المستقبليين من أمثال «أنطونيو سانت إليا» طموحة، ومتجاوزة عصرها، لكنها لم تنفذ بسبب تكلفتها العالية. ورغم انتهاء الحركة بموت مؤسسها عام 1944 إلا أن حركات عديدة تأثرت بها. كما ظهر مستقبليون جدد أو من يعرفون ب»مابعد المستقبلية» فى المسرح، أواخر الثمانينيات فى شيكاغو، ومدن أمريكية أخرى، وتركز أيضا على السرعة والإيجاز فى الكلام. وعلى عكس أغلب الحركات الفنية احتفت «المستقبلية» بالآلة. كما دعا بيان لها صاغه «لويجى روسولو» بعنوان «فن الضوضاء» إلى استخدام الأصوات الصناعية (مثل صفارات الإنذار والمحركات) كموسيقى. ■ يوتوبيا المستقبل بالفن الرقمي ◄ مخاوف بيئية مع تقدم القرن العشرين، أصبحت العلاقة بين الفن والتكنولوجيا أكثر تعقيدا. وبدأ الفنانون فى التعامل مع آثار التقدم التكنولوجى على المجتمع والتجربة الإنسانية، ومنهم «أندى وارهول» (1928-1987)، أحد رواد «البوب أرت»، والذى صور ثقافة المستهلك فى «مارلين ديبتيك» (1962)، عاكسا التكرار وتقنيات الإنتاج الضخم، وتسليع الثقافة، ومتسائلا عن مستقبل الفردية فى عالم التنميط الاستهلاكي. كذلك عكست سلسلته «القنبلة الذرية» القلق من مخاطر التهديد النووى، ومخاوف الحرب الباردة. كما قدم الفنان «نام جون بايك» عملا بعنوان «الطريق السريع الإلكترونى» (1995) هو عمل مركب يمثل خريطة ولايات أمريكا مع أنابيب نيون بطول 176 مترا و336 جهاز تليفزيون وأجهزة فيديو، تعرض مشاهد سريعة من مختلف الولايات. ورغم أنه كان يبدو وقت تنفيذه عملا يحيل إلى المستقبل ويتنبأ بظهور الإنترنت، وثورة الاتصالات الرقمية، لكنه الآن يبدو قديما، مقارنة بما وصلت له التكنولوجيا. ويصنف البعض ما يعرف بفن الفضاء للأمريكى «تشيسلى بونيتسيل» 1888- 1886 كنوع من استحضار المستقبل، وكذلك أعمال الفرنسى «لوسيان رودوكس». وفى مجال الفن الرقمى فى القرن الحالى، قدم «رافائيل لوزانو هيمر» دمجا بين الفن والتكنولوجيا. وبشكل عام يعبر الكثير من الأعمال المعاصرة عن القلق حول مستقبل البشرية والحياة على الأرض مع تغير المناخ والتدهور البيئى. وتصدر فنانون مثل «أولافور إلياسون» و»أجنيس ماير برانديس» حركة للتحذير من تلك المخاطر بأعمال مثل «مشروع الطقس» (2003)، و»مستكشف القمر» وغيرها. ■ يوتوبيا للفنان دانييل كليبس ◄ في الموسيقى ولم يقتصر تناول المستقبل على الرسامين، فقد تناوله الموسيقيون أيضا فى أعمال مثل «طقوس الربيع» ل»سترافينسكى» 1913 بما تضمنته من إيقاعات فوضوية عكست القلق من القادم. وفى السينما اعتبر فيلم «ميتروبوليس» 1927 ل«فريتز لانج» بمثابة رؤية سينمائية تشاؤمية للمستقبل، فيما يتعلق بالصراع الطبقى وتوقع تغول الآلة، والاغتراب فى مجتمع المدينة. وفى الأدب اعتبرت رواية «1984» ل«جورج أورويل» كتحذير من مستقبل مأساوى فى حال سيطرت الأنظمة الشمولية الشيوعية. كما مثلت رواية «البرتقالة الآلية» 1962 لمؤلفها «انتونى برجس» أحد الأعمال التى تناولت القلق من تنامى العنف فى المستقبل. وقد تحولت إلى فيلم سينمائى شهير على يد المخرج المثير للجدل «ستانلى كوبريك» عام 1971. ولا يزال المستقبل يشغل الفنانين، كما فى تجربة الفنانين المعاصرين «جوتشى» و»فرفيتش» فى مشروعهما «تخيل المستقبل»، وحاولا من خلاله تقديم صورة إيجابية عن مستقبل يفسح مجالا للطبيعة، رغم وجود التكنولوجيا.