فى علم إدارة الأزمات، هناك من يواجه الأزمة بالتحليل والمراجعة، وهناك من يُديرها بالإنكار والإسقاط إسرائيل اختارت الطريق الثانى بامتياز هى لا تواجه أزمتها، بل تُديرها عبر تضليل الداخل وشيطنة الخارج وما يحدث اليوم مع مصر ليس إلا امتدادًا لهذا الأسلوب الممنهج، الذى يحاول دومًا خلق عدو خارجى افتراضى يصرف انتباه الإسرائيليين عن فساد الحكم وسوء وفشل الإدارة. اقرأ أيضًا| إسلام عفيفى يكتب: سلام ترامب.. إفطار بمذاق بارد ومأزق الشرق الأوسط ليس جديدًا على إسرائيل أن تصدر أزماتها إلى الخارج، لكنها هذه المرة تفعل ذلك بوقاحة غير مسبوقة، وسيناريو مفضوح لا يخفى حتى على أنصاف المتابعين منذ بداية عملية طوفان الأقصى، وجيش الاحتلال يعيش أسوأ لحظاته السياسية والدبلوماسية، أمام موقف مصرى راسخ وشعب يتمسك بالأرض حتى لو دُفن قصفا، لا تجد إسرائيل مخرجًا سوى توجيه أصابع الاتهام نحو مصر، وكأنها تريد تحميلها فشلها فى الميدان، وتصدير عقدها النفسية والسياسية إلى خارج حدودها. إسرائيل تتقن فن الهروب للأمام ففى كل أزمة - سواء كانت أمنية، عسكرية، أو حتى سياسية داخلية - تبحث عن شماعة تعلق عليها خيباتها وهذا تمامًا ما يحدث اليوم: فبدلًا من أن تُراجع أداءها الميدانى فى غزة، وبدلًا من أن تعترف بأن استراتيجياتها الأمنية والاستخباراتية قد انهارت، اختارت كعادتها الحل الأسهل: اتهام مصر. اقرأ أيضًا| إسلام عفيفي يكتب: ماذا نريد من الدراما؟ مرة تتهم القاهرة بأنها «سهلت تهريب السلاح»، ومرة تزعم أن «الأنفاق ما زالت تعمل»، وثالثة تدعى أن «المخابرات المصرية ضللتها بشأن نوايا حماس»، وأخيرًا، تتحدث عن «مطالبتها بتفكيك البنية العسكرية المصرية فى سيناء».. لماذا تستهدف إسرائيل مصر تحديدًا؟ لأن القاهرة تمثل اللاعب الأهم - ولا أبالغ إذا قلت الوحيد - فى معادلة غزة، ولأنها تمسك بأوراق الميدان والملف الأمنى والمفاوضات فى آن واحد، إسرائيل تعلم أن مصر تمثل قوة توازن، وصوتًا عاقلاً، ومركز ثقل لا يمكن تجاوزه لذا، فإن استهدافها لمصر ليس عشوائيًا، بل نابع من إدراك عميق بأن النفوذ المصرى هو الوحيد القادر على ضبط الإيقاع فى لحظة الانهيار الإقليمي. بل إن ما يُقال حاليًا عن «إعادة النظر فى الترتيبات الأمنية فى سيناء» ليس إلا استفزازًا سياسيًا فاشلًا، يراد به تصدير الأزمة داخليًا للجمهور الإسرائيلي، وممارسة ضغط خارجى على مصر، وإرسال رسائل وهمية لحلفاء إسرائيل بأنها ما زالت تمتلك اليد العليا فى المنطقة، بينما الحقيقة أن يدها باتت مرتعشة، وإدارتها للملف باتت أقرب إلى التخبط منه إلى الفعل المنظم. اقرأ أيضًا| إسلام عفيفى يكتب: الصناعة من البيروقراطية إلى «ثورة الفريق كامل» الرقمية اللافت أن مصر لا تُعامل هذه الادعاءات بنفس المستوى من الضجيج هى لا تردّ كل يوم، ولا تُصدر بيانات غاضبة فى كل ساعة، لكنها تُدير المشهد بهدوء السيادة فالدولة الواثقة لا تنجر إلى معارك كلامية، لكنها تعرف متى تحسم الأمور ويكفى أن العالم كله - بما فى ذلك شركاء إسرائيل التقليديين - أدرك كذب تلك الادعاءات، بل وبدأت بعض الأصوات الغربية تنتقد إسرائيل على محاولة إلقاء اللوم على أطراف أخرى، فى مشهد هزلى يفضح العجز لا يعالجه. إسرائيل تُقاتل على جبهتين: غزة والداخل جبهة غزة، حيث تعانى من حرب استنزاف غير مسبوقة، للعتاد والجنود (أكثر من 70 مليار دولار خسائر) وجبهة الداخل، حيث تصاعد الغضب الشعبي، وانقسامات حادة داخل المجتمع والمؤسسة العسكرية، واتهامات متبادلة عن الفشل، وتراجع صورة الحكومة.. وفى هذا السياق، تصبح فكرة «العدو الخارجي» ضرورة سياسية لا تكتيكًا لذلك تلجأ إسرائيل إلى تحميل مصر مسؤولية كل شيء: الفشل الاستخباراتي، الارتباك السياسي، بطء الحسم، تعقيد المفاوضات، الفرق بين القاهرة وتل أبيب الآن واضح: مصر تتعامل كدولة مسؤولة، تحترم سيادتها وتعرف وزنها، بينما إسرائيل تتصرف ككيان مأزوم، يبحث عن مهرب من واقع يهتز من تحته. وإذا كان تصدير الأزمة فنًا، فإن إسرائيل تتقنه تمامًا... لكنها لا تدرك أن العالم تغيّر، وأن سردياتها لم تعد تُقنع أحدًا، وأن اتهام مصر لم يعد يعفيها من مسؤولية ما يحدث فى غزة، ولا يُخفف من فشلها الذى أصبح حديث الإعلام العالمي.. الهروب للأمام لا يصنع نصرًا، والتلاعب بالحقائق لا يصنع سياسة أما مصر، فتبقى بثباتها، وصلابة موقفها، حجر الزاوية فى أمن المنطقة شاءت إسرائيل أم أبت.