يخبرنا تاريخ الحضارة الإسلامية عن براعة «الكِندي» فى الفلسفة والفلك والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى، وعن عبقرية «الفارابي» بين الطب والفيزياء والفلسفة والموسيقى، وإبداع «ابن سينا» في الطب والفلسفة والموسيقى، وإتقان «الجزري» للهندسة الميكانيكية والرسم والتصميم، وجمع «الخيام» بين الرياضيات والفلك والشعر، وإجادة «الأرموي» في الرياضيات والموسيقى، والأمثلة كثيرة لعلماء موسوعيين جمعوا بين العلوم التي اعتبروها طريقا لاكتشاف سنن الخالق، والفنون كتجسيد للجمال الإلهي، وكلاهما عبر لديهم عن فلسفة التوحيد، التي رأت في الكون كتابا مفتوحا تقرأ آياته بالعقل، وتستشعر حكمته بالقلب، وتعبر اليد عن إعجازه. ◄ سبقوا العلماء الموسوعيين فى عصر النهضة الأوروبي ◄ اعتبروا الرياضيات حلقة الوصل بين العلم والإبداع ◄ الموسيقى علم رياضي كوني عند عباقرة الحضارة الإسلامية ◄ «الكندي» موسوعي إسلامي شهد له عصر النهضة الأوروبي كان «ابن الهيثم» أيضا عالم فيزياء ورياضيات، وأسهم في فهم إدراك العين للمرئيات، ما ساعد فى تطور الفنون البصرية. ولم يكتف «البيروني» بمؤلفاته فى الفلك والرياضيات والجغرافيا، فدرس الموسيقى الهندية بأبعادها الروحية. ولم تكن تلك الموسوعية أمرا نادرا فى عصور الازدهار الإسلامي، بل تعد إحدى سمات الحضارة، وسبقت بها ظاهرة العلماء الموسوعيين فى عصر النهضة. ◄ توحيد نظر الكثير من علماء العصور الإسلامية إلى العلوم كشكل من أشكال التعبد، انطلاقا من أن الكون من صنع الإله، وبالتالى فدراسة الطبيعة والكيمياء والمخلوقات هى محاولات لاكتشاف قوانين الخالق، وإعمال للآية الكريمة: «قل سيروا فى الأرض، فانظروا كيف بدأ الخلق.» العنكبوت 20. كما مثلت دراسة الفلك التعرف على عظمة الكون واتساعه وإدراك القدرة الإلهية التى تدبر تسيير الأفلاك بهذا الانتظام المعجز. وهى نظرة متصالحة مع العلم، أدت إلى صعود سريع للحضارة الإسلامية. وبالتوازي نُظِر للفن كلغة للروح فى حوارها مع المادة، وكبصمة للجمال الإلهى بيد الإنسان. وتجلت هذه الفنون فى تجريدات زخرفية هندسية رمزت إلى لانهائية الخالق. كما انصب الاهتمام على الموسيقى بأبعادها الرياضية والروحية، وعرف المتصوفة دورها فى تهذيب النفوس مقترنة بالأذكار وفنون السماع، فبات التصوف جسرا بين العلوم والفنون والروحانيات. وهو ما يظهر بوضوح فى كتابات ابن عربي، التى جمعت بين الأدب والفلسفة والرموز الكونية. كما كان الخط العربى فنا وتعبيرا جماليا عن الذكر الحكيم، ضمن الرؤية الجمالية نفسها التى نبعت من فكرة التوحيد، واتصلت بالقوانين العليا للوجود، مما جعل العلوم والفنون فى خدمة الغاية الروحية. ومن المثير أن عالما مثل «الكندى» قد توصل إلى فهم النغمات الموسيقية كظواهر رياضية، وعبر عن ذلك فى كتابه «رسالة فى الموسيقى» قائلا: «إن النسب الرياضية للنغمات تعكس نظام الخلق الإلهى». ■ الموسيقى جزء أصيل من الحضارة الإسلامية ◄ انسجام يعتبر الكندى (185-256ه) أول فلاسفة الإسلام. وانشغل بالتوفيق بين الفلسفة والعلوم والعقيدة الإسلامية. كما كان أحد كبار العلماء والمترجمين، حتى أن «المأمون» عينه مشرفا على بيت الحكمة ببغداد. وتحدث عنه «ابن النديم» فى «الفهرست» قائلا: «فاضل دهره، وواحد عصره فى معرفة الفنون، ويسمى فيلسوف العرب» واعتبره العالم «جيرولامو كوردانو» من عصر النهضة أحد أعظم العقول الاثنى عشر فى العصور الوسطى لما تميز به من موسوعية شملت علوما وفنونا وأفكارا. فكان أول من وضع قواعد للموسيقى فى العالم العربى، واقترح وترا خامسا للعود، ووضع سلما موسيقيا مازال يستخدم، وأدرك التأثير العلاجى للموسيقى. وله كتاب بعنوان «تصوف الصوت والموسيقى» بين فيه الطبيعة الروحية للنغمات. كما كان أول من قام بتدوين الموسيقى بالحروف وباستخدام السلم اللونى. وكتب عن ارتباط آلة العود بعلم الكونيات، وعن تأثير كل وتر على الروح. وقال إن الموسيقى ليست للترفيه فقط ولكنها لتحسين الصحة. وذكر أنه عالج طفلا كان مشلولا بالكامل بالموسيقى. كما تحدث عن العلاقة بين الفلك والموسيقى. ورأى أن النغمات تحدث انسجاما بين النفس والعالم كانعكاس للانسجام الكونى. ووصف الموسيقى برياضة للنفس تخرجها من حال إلى حال. كذلك عبر عن الحقائق العلمية بأسلوب أدبي. وربط بين نظرية الضوء فى الفيزياء وبين الرياضيات والحكمة الإلهية والفنون تحت راية التوحيد كرؤية شاملة للكون. ■ صورة صفي الدين الأرموي على سجادة ◄ اقرأ أيضًا | «جامع السلطان حسن».. دُرَّة العمارة الإسلامية وأجمل مساجد القاهرة ◄ تناغم «المدينة التى يتعاون أهلها على تحقيق السعادة هى مدينة فاضلة.. وبالمثل تصبح الأرض فاضلة إذا تعاونت الأمم على تحقيق السعادة» مقولة ل»الفارابى» (260-339ه) تعكس رؤيته كفيلسوف للسعادة، وأحد رموز العصر الذهبى للحضارة الإسلامية. وهو شخص موسوعى أيضا جمع بين الفلسفة والطب والرياضيات والبلاغة وأولى الفن اهتماما خاصا، فألف «كتاب الموسيقى الكبير»، وتناول فيه الجانبين النظرى والعملى لهذا الفن، بداية من عملية توليد الصوت، والنظرية الموسيقية. وعدّد المقامات بين الدورى والفريجى والليدى والمكسليودى، وشرح طبيعة كل منها وتأثيره العاطفى. وتناول النغمات وعلاقتها بالنسب الرياضية، وكيف تختلف الأصوات الموسيقية كميا ونوعيا. كما شرح دور الموسيقى فى المجتمع والتربية والأخلاق. وطالب باستخدامها لتحسين المجتمع. وله ثمانية كتب عنها نجا منها أربعة. وفى كتابه «إحصاء العلوم» وضعها ضمن العلوم الرياضية مع الهندسة والفلك. وهو الآخر اعتبرها رياضيات كونية تلخص القوانين العليا للخلق، وتعكس التناغم كسمة للوجود. وعمليا كان عازفا ماهرا على العود، واعتبره أداة لفهم الإيقاع الكونى. وقد ذكرت بعض الحكايات أنه كان يستطيع باستخدام الموسيقى إضحاك الناس وإبكاءهم وجعلهم يغطون فى النوم. وتناول الفنون عموما فى عديد من كتبه ورسائله، وكان من الجرأة أن صنف الفنانين فى المرتبة الثانية فى مدينته الفاضلة (على غرار مدينة أفلاطون)، وذلك بعد الأنبياء والخلفاء، معللا ذلك بأن الأنبياء ينقلون الحقائق للعامة من خلال المجازات والأمثلة، وكذلك يفعل الفنانون، فينقلون السعادة إلى عقول الناس من خلال أشكال حسية وخيالية. وقد انشغل فى فلسفته بفكرة التوحيد، ودرس جذورها فى الفلسفات القديمة، ووضع تصورا يتوافق مع الرؤية الإسلامية. وشرح كتاب «الميتافيزيقا» لأرسطو، بطريقة جعلت منه جسرا حضاريا بين الفلسفة اليونيانية والإسلامية. ■ من مخطوطة علمية إسلامية ◄ علاج بالموسيقى يعتبر الإنجاز الأكبر لابن سينا (370-427ه) دمجه الفلسفة مع الطب وعلم النفس والموسيقى. وقال إن الموسيقى تعزز الحركة وتثير اللذة والفرح والنقاء والشعور بالابتهاج. وقام بتحليل اهتزازات الجسد البشرى من نبض وتنفس وضربات القلب وربطها بالفواصل الموسيقية. وبفضله دخلت الموسيقى رسميا إلى أماكن علاج الحالات النفسية. وكان قد استكمل فى التنظير لها ما بدأه الفارابى. وربطها بالعواطف التى تؤثر على الحالة الجسدية. وفى كتابه «رسالة فى النفس» شرح ذلك التأثير بالرسوم. وفى كتابه «القانون فى العزف» تناول العلاقة بين النغمات والنبض البشرى. وذكرها كأحد العلوم الأربعة مع الفلك والحساب والهندسة، وبيّن علاقتها بالعقل والجسد فى كتابه «الشفاء». وأكد أنه لا يمكن فهم الجسد دون فهم النفس. واعتبر الطب فنا للحفاظ على الصحة واستعادتها. ونظر للمرض كفقدان للانسجام، وبالتالى يكون الشفاء باستعادته عن طريق الموسيقى التى تعزز انسجامنا وبالتالى صحتنا. وكلها مفاهيم عادت إلى الظهور خلال القرن العشرين. وكان «جوزيفو زارلينى» المنظر الموسيقى الإيطالى من القرن 16 قد اعترف بفضله، واستند إلى مقولاته. كما أشارت دراسات حديثة إلى أن تأثير النظرية الموسيقية العربية التى تطورت على أيدى ابن سينا ورفاقه أكبر بكثير مما هو معترف به. ■ جمع علماء المسلمين بين الطب والفلسفة والموسيقى ◄ نور القلب دمج الموسوعى عبد الرحمن الصوفي (291-376ه) بين علم الفلك والرياضيات والرسوم التعبيرية عن الأجرام السماوية في كتابه «صور الكواكب». وربط العلم بالمعتقدات القديمة والأساطير. وكتب الأشعار التفسيرية. كما قال بكروية الأرض، وترجم كتب الفلك الهلنستية التى أنجزت فى الإسكندرية. واعترافا بفضله أطلق اسمه حديثا على إحدى فوهات القمر. كذلك صاغ «صفي الدين الأرموي» في القرن السابع الهجري نظرية كونية للموسيقى جمعت التصوف ومفهوم وحدة الوجود مع النسب الهندسية عند فيثاغورث. وقارن النغمات السبع بالكواكب المتحركة مشيرا إلى أن كل نغمة تعبر عن نظام كوني. وقال إن النغمات كالكواكب السيارة تدور حول التوحيد. وجمع مع الموسيقى والغناء الخط والأدب والتاريخ والفقه الشافعى، وكان نديما لآخر الخلفاء العباسيين «المستعصم بالله» الذى سمع أحد ألحانه بصوت المغنية الحسناء «لحاظ»، فسأل عنه، وأحضره، وأبقاه فى مجلسه إلى آخر عهده. وقد وصفه الاسكتلندى «هنرى جورج فارمر» بأحد من أضاءوا تاريخ الموسيقى العربية. واعتبر الإنجليزى «هربرت بارى» سلمه الموسيقى الأكمل على الإطلاق. كذلك احتلت الموسيقى مكانة كبيرة لدى المتصوفة، واعتبروها وسيلة للاتصال الروحى، فحولها جلال الدين الرومى مع الشعر إلى طقس السماع. وربطوا الموسيقى أيضا بحركة الأفلاك. كذلك كتب «ابن خلدون» عن أثرها على الروح وشبهه بتأثير الشعر. والقائمة طويلة لعلماء موسوعيين كان الرابط بين العلم والفن لديهم هو فلسفة التوحيد. والتى كانت مظلة للبحث عن المعنى الذى لا يكتمل إلا بجمع العلوم والفنون بنظرة تأملية للوجود، يتصالح فيها العقل والقلب والحواس، عبر إدراك شامل للعالم.