بعد عودته إلى البيت الأبيض، واجه دونالد ترامب معركتين مصيريتين، الأولى تتمثل في سعيه لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، والثانية تتعلق بكبح النفوذ الصيني المتنامي في أفريقيا، وهي قارة أصبحت ساحة تنافس شرس بين القوى الكبرى. لا سيما وأن التوسع الصيني في أفريقيا يحمل أبعادًا استراتيجية تهدد الهيمنة الغربية، بعدما تراجع النفوذ الأمريكي والأوروبي، خاصة بعد انسحاب فرنسا من عدة دول أفريقية، الأمر الذي منح الصين وروسيا مساحة لتعزيز وجودهما في القارة السمراء. كما لم تكتفِ الصين، بتوسيع تجارتها واستثماراتها، بل عززت سيطرتها على الموارد الحيوية والبنية التحتية، مما جعلها لاعبًا رئيسيًا في تحديد مستقبل أفريقيا الاقتصادي، والسؤال الآن، هل يستطيع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب إعادة التوازن إلى المشهد الجيوسياسي؟ وكيف يمكنه احتواء التغلغل الصيني في القارة؟ وخلال السطور التالية، تسلط «بوابة أخبار اليوم» الضوء على التفاصيل في التحليل التالي، لمجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية. مع تزايد نفوذ الصين وروسيا في أفريقيا، تجد الولاياتالمتحدة نفسها بحاجة إلى إعادة تقييم استراتيجيتها. لعقود، كانت واشنطن مضطرة لمراعاة حساسيات الشعوب الأفريقية تجاه القوى الاستعمارية الأوروبية، خاصة فرنسا، لكن اليوم، ومع تراجع النفوذ الفرنسي وخروج قواته من النيجر وبوركينا فاسو ومالي وتشاد، باتت الولاياتالمتحدة أمام فرصة للتواصل مباشرة مع القادة الأفارقة، بعيدًا عن الصورة السلبية التي خلفتها السياسات الأوروبية في القارة. وترك الانسحاب الفرنسي فراغًا، استغلته بكين وموسكو بسرعة، وبينما اكتفت واشنطن بالمراقبة، اتخذت إدارة ترامب موقفًا أكثر صرامة تجاه الأنشطة الصينية المتزايدة في أفريقيا، إدراكًا منها لأهمية القارة في الصراع الجيوسياسي العالمي. اقرأ أيضًا| ضربة اقتصادية مزدوجة.. الاتحاد الأوروبي يستعد لمعاقبة ترامب وشركات التكنولوجيا الكبرى الصين تتربع على عرش التجارة مع أفريقيا منذ 15 عامًا، تتربع الصين على عرش التجارة مع أفريقيا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين 295 مليار دولار في 2024، مسجلًا زيادة بنسبة 4.8% عن العام السابق. ولم يتوقف نفوذ الصين عند التجارة، بل امتد إلى مشروعات البنية التحتية، حيث استحوذت الشركات الصينية على 31% من المشاريع الكبرى في القارة، مقارنة ب12% فقط للشركات الغربية، ليوضح هذا التغيير الجذري تحوّلًا كبيرًا منذ عام 1990، حين كانت الشركات الأمريكية والأوروبية تهيمن على 85% من مشاريع البناء في أفريقيا. وفي 2024، خلال قمة منتدى التعاون الصيني الأفريقي "فوكاك" في بكين، أعلن الرئيس الصيني، شي جين بينج، عن تقديم 51 مليار دولار كقروض واستثمارات ومساعدات لأفريقيا، وبين 2013 و2021، تفوقت الاستثمارات الصينية المباشرة في القارة على نظيرتها الأمريكية، حيث قفزت من 75 مليون دولار عام 2003 إلى 5 مليارات دولار في 2021. ولا تستثمر الصين في أفريقيا لمجرد الربح، بل تسعى للسيطرة على الموارد التي تعزز مكانتها كقوة عالمية، ففي 2007، قدمت بكين 5 مليارات دولار لجمهورية الكونغو الديمقراطية، ما منحها وصولًا مباشرًا إلى معادن ثمينة مثل الكوبالت والنحاس واليورانيوم، واليوم، أصبحت الشركات الصينية تسيطر على أغلب مناجم الكوبالت في القارة، حيث زادت حصتها بنسبة 21% منذ 2019. ولم تتوقف الصين عند الكونغو، بل وسّعت عملياتها في زيمبابوي ومالي لاستخراج الليثيوم، وفي بوتسوانا وزامبيا لتعدين النحاس، مما جعلها المزود الرئيسي للمواد الخام الضرورية لصناعات التكنولوجيا والطاقة المتجددة. إلى جانب الموارد، تدرك الصين أهمية الموانئ كمفاتيح رئيسية للتجارة العالمية، حيث تشارك الشركات الصينية حاليًا في 62 مشروعًا لبناء وتطوير الموانئ الأفريقية، وتمنح هذه السيطرة الصين نفوذًا غير مسبوق على حركة التجارة البحرية في القارة، ما يعزز قبضتها على الاقتصاد الأفريقي ويحدّ من قدرة الدول الغربية على منافستها. هل يستطيع ترامب قلب المعادلة؟ توسع الصين في أفريقيا لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة لسياسات مدروسة امتدت لعقود، لكن إدارة ترامب تسعى الآن لكبح هذا النفوذ من خلال استراتيجيات أكثر صرامة، بما في ذلك تعزيز الشراكات مع الدول الأفريقية بعيدًا عن الإرث الأوروبي، والتركيز على مشاريع استثمارية أكثر تنافسية لمواجهة الزحف الصيني. بينما تضخ الصين استثمارات ضخمة في تطوير البنية التحتية للنقل داخل أفريقيا، حيث قامت ببناء أو تحديث أكثر من 10,000 كيلومتر من السكك الحديدية، و100,000 كيلومتر من الطرق السريعة، إضافة إلى إنشاء أكثر من 80 محطة طاقة رئيسية، ويعزز هذا التوسع مكانة بكين بين الشعوب الأفريقية، التي لا تزال مُتأثرة بتاريخها الاستعماري مع القوى الغربية، ما فتح المجال أمام الصين وروسيا لتعزيز نفوذهما. اقرأ أيضًا| خلافات داخل الاتحاد الأوروبي تفشل أكبر دعم عسكري لكييف سياسة «عدم التدخل» تمنح الصين تفوقًا دبلوماسيًا من أبرز العوامل التي تجعل الصين أكثر قبولًا لدى القادة الأفارقة مقارنة بالدول الغربية هي سياستها القائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية. بينما تشترط واشنطن وعواصم أوروبا الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان مقابل التعاون الاقتصادي، وتركز بكين على المصالح المتبادلة دون فرض شروط سياسية، إلى جانب حصولها على المعادن الاستراتيجية، تكسب الصين دعمًا دبلوماسيًا قويًا من الدول الأفريقية في المحافل الدولية مثل الأممالمتحدة، والدليل على ذلك أن إسواتيني هي الدولة الأفريقية الوحيدة التي لا تزال تعترف بتايوان دبلوماسيًا. الخلاف الأمريكي الأوروبي يفتح الباب لتغير النفوذ في أفريقيا لطالما تجنبت الولاياتالمتحدة الدخول في صدام مباشر مع القوى الغربية الأخرى في أفريقيا، لكنها اليوم أمام مشهد جديد. فالتوتر بين واشنطن وبروكسل، خاصة بعد الخطاب المثير للجدل لنائب الرئيس الأمريكي، جي دي فانس في مؤتمر ميونيخ للأمن 2025، قد يعيد رسم خريطة النفوذ في القارة، ومع تراجع صورة فرنسا في أفريقيا، تبدو واشنطن في وضع يسمح لها بتقديم نفسها كشريك أكثر استقلالية عن الإرث الاستعماري الأوروبي. فرنسا.. من الهيمنة إلى التراجع في أفريقيا على مدار عقود، ركزت باريس على ضمان سيطرتها الاقتصادية في مستعمراتها السابقة بغرب ووسط أفريقيا، مستغلة نفوذها السياسي لاحتكار المواد الخام بأسعار زهيدة. وخلال الستينيات، أقامت السلطات الفرنسية علاقات وثيقة مع النخب الحاكمة، مما مكّنها من الوصول إلى الموارد الطبيعية مقابل تقديم الحماية العسكرية، في المقابل، دعمت فرنسا الانقلابات ضد الحكومات التي لم تتماشى مع مصالحها، وفقًا لمجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية, حتى النظام المالي ل الدول الأفريقية لم يكن بعيدًا عن النفوذ الفرنسي، حيث أدارت باريس اقتصاديات 14 دولة من خلال الفرنك الأفريقي، المرتبط باليورو. وحتى عام 2019، كانت هذه الدول مطالبة بإيداع نصف احتياطاتها من النقد الأجنبي في الخزانة الفرنسية، ولم يكن بإمكانها سحب الأموال إلا عبر قروض مشروطة من باريس بفوائد مرتفعة. اقرأ أيضًا| المظلة النووية الأوروبية تترنح بين النفوذ الفرنسي والاعتماد البريطاني على واشنطن رد الفعل الأفريقي يهدد المصالح الفرنسية مع تصاعد المشاعر المعادية للاستعمار، تواجه فرنسا تراجعًا حادًا في نفوذها الأفريقي، على سبيل المثال، فقدت شركة "أورانو" الفرنسية حقوق استخراج 20% من اليورانيوم في النيجر بعد استيلاء المجلس العسكري على السلطة في يوليو 2023، كما تخضع شركات كبرى مثل "توتال إنرجيز" و"مجموعة أورانج" لضغوط مالية متزايدة، تشمل فرض ضرائب جديدة وخسارة عقود حكومية. ولم تكن فرنسا الوحيدة التي عانت من ارتدادات سياستها الأفريقية، التدخل البلجيكي في الكونغو ورواندا بعد الاستعمار أدى إلى نتائج عكسية، مما فتح الباب أمام الصين لتعزيز وجودها في وسط أفريقيا، ورغم أن بريطانيا واجهت ردود فعل أقل حدة، فإن سلوك بعض شركاتها الكبرى لا يزال يثير انتقادات شعبية في العديد من الدول الأفريقية. اقرأ أيضًا| «لحظة فوكلاتد».. بريطانيا تخطط لإنفاق 118 مليار جنيه إسترليني لضمان التفوق النووي