النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط محل سجال كبير داخل المراكز البحثية ودوائر صناعة القرار في الولاياتالمتحدة، إذا يطفو على السطح من وقت لآخر جدوى توسيع هذا النفوذ من عدمه في المنطقة، سيما وأن السنوات العشر الأخيرة شهدت تباينًا حادًا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن «المكاسب والخسائر». في أحدث تقاريرها سلطت المجلة الأمريكية «ناشونال إنترست» الضوء على منطقة عمياء تساهم في تحديد الخطط الأمريكية نحو إرساء نظام إقليمي في الشرق الأوسط، إذ اعتبرت أن تآكل الطبقة العاملة «أصحاب الياقات الزرقاء» عنصرًا أشد وطأة على الولاياتالمتحدةالأمريكية، من محاولات ترويض روسيا أو محاصرة النفوذ الصيني. وحددت المجلة الأمريكية المتخصصة في الشؤون الخارجية، قوة الولاياتالمتحدة على المسرح العالمي في واشنطن العاصمة، ونيويورك، ووادي السيليكون، معتبرة أن هذه المدن تجمع بين قوة النفوذ، والثروة، وعبقرية التكنولوجيا الأمريكية. ومع ذلك، فإن معظم النخب الأمنية القومية الأمريكية تتنقل بين هذه المدن، إما للعمل في الحكومة، أو التخطيط للحصول على منصب سياسي. هذا النجاح يعزز عزلة هذه النخب داخل فقاعة من الأفراد المتشابهين في التفكير، المنفصلين عن واقع الطبقة العاملة الأمريكية، حسب المجلة الأمريكية. ◄ تهديدات تواجه الطبقة العاملة نتيجة لذلك، ترى المجلة الأمريكية أن الكثير من هذه النخب بعيدة عن فهم هموم المواطنين العاملين، فهم يكتبون تقارير أكاديمية تنعي تآكل «إجماع واشنطن»، بدلًا من مناقشة كيفية تأثر الوظائف الأمريكية ذات الياقات الزرقاء، نتيجة تراجع التصنيع ونقل الوظائف إلى الخارج. ورغم وجود ألمع العقول في أعلى مستويات الحكومة، إلا أن واشنطن تقدم القليل جدًا للطبقة العاملة الأمريكية التي تعاني من ارتفاع تكاليف المعيشة وتصاعد التهديدات لأمنها. اقرأ أيضا| قيود وضرائب ورسوم.. عوائق جديدة أمام تدفق السياح لأمريكا بسبب قرارات ترامب هذه الفجوة بين النخب والمواطنين العاديين دفعت المجلة الأمريكية إلى التساؤل حول مدى فعالية الحلول التي تقدمها النخب، في معالجة التحديات الحقيقية التي تواجه المجتمع الأمريكي، خاصة بعد لعبت هذه الطبقة دورًا حاسمًا في الانتخابات الرئاسية الكبرى الثلاثة الماضية، ما أدى إلى إعادة توجيه الحزبين الرئيسيين بعيدًا عن إجماع ما بعد الحرب الباردة، حول التجارة الحرة والتوسع العسكري في الخارج. وانطلاقًا من هذه الرؤية التي تساهم في إحياء «الحلم الأمريكي»، طالبت المجلة الأمريكية النخب الأمنية القومية، ضرورة إعادة توجيه جهودها من الدفاع عن المؤسسات العالمية المتداعية، إلى تعزيز مصالح الطبقة العاملة الأمريكية بلا هوادة. عامل آخر اعتبرته المجلة الأمريكية عظيم الأهمية في الطريق نحو ترميم الطبقة العاملة يتمثل في تعرض أفراد الجيش الأمريكي - الذين ينتمون في الغالب إلى الطبقة العاملة والمتوسطة - لتهديدات متزايدة بسبب الترسانات الحديثة من الطائرات المسيرة والصواريخ والأنظمة المضادة للطائرات المصممة خصيصًا لتجاوز التفوق الجوي والبحري الأمريكي، وهو ما يعيد الولاياتالمتحدة لى أحلك أيام الحرب الباردة. ◄ تقاسم الأعباء مع أوروبا إذا كانت الدبلوماسية الفعالة هي فن تحديد الأولويات، فإن هذا يتطلب وفق المجلة الأمريكية، أكثر من مجرد إصدار وثيقة استراتيجية جديدة حول «التحول» نحو آسيا. بل ينبغي على واشنطن إعادة تخصيص موارد ملموسة من مناطق أخرى، سواء عبر القوة الصلبة - بما في ذلك نشر القوات والمقاتلات ومنصات الدفاع الجوي والمبيعات العسكرية الخارجية - أو عبر القوة الناعمة، مثل تكثيف زيارات البيت الأبيض والمسؤولين رفيعي المستوى. ويمكن لواشنطن تعويض ذلك من خلال تقاسم الأعباء في أوروبا، وإرساء نظام إقليمي في الشرق الأوسط، والتخلي عن سياسات إعادة بناء الدول المكلفة في أماكن أخرى. ورغم أن مثل هذا التغيير غالبًا ما يُواجه باتهامات بالعزلة من قبل النخبة السياسية في واشنطن، إلا أن هذا النقد يخلط بين تحديد الأولويات الاستراتيجية والتراجع، ويخطئ في اعتبار إعادة توزيع الموارد الأمريكية المحدودة بشكل مدروس بمثابة تخلي عن المسؤوليات الدولية، حسب المجلة الأمريكية. وتطرقت المجلة الأمريكية أيضًا إلى مبدأ مونرو «ينادي بضمان استقلال كلِّ دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي بغرض اضطهادهم، أو التّدخّل في تقرير مصيرهم»، مؤكدة أنه لطالما شكل هذا المبدأ حجر الأساس في استراتيجية الولاياتالمتحدة لمنع التدخل الأوروبي في نصف الكرة الغربي، لكن اليوم، لم تعد أوروبا التهديد الرئيسي، بل أصبحت الصينوروسيا، عملاقا أوراسيا، الخطر الأكبر. وطالبت إدارة ترامب بضرورة إعادة صياغة هذا المبدأ بحيث يركز على منع أي قوة أوراسية من ترسيخ وجودها في نصف الكرة الغربي، مع إعطاء الأولوية لمنافسة الصين، الدولة التي أضرت مباشرة بالطبقة العاملة الأمريكية من خلال تصدير الوظائف إلى الخارج، ونشر المخدرات الاصطناعية، وسرقة التكنولوجيا، حسبما أفادت المجلة الأمريكية. ◄ الرقائق التايوانية المتقدمة ويكمن جوهر هذا المبدأ من وجهة نظر المجلة الأمريكية، في حماية الوطن من التهديدات العابرة للحدود، لذا ينبغي على الولاياتالمتحدة أن يكون التصدي لهذه التهديدات محور دبلوماسيتها في نصف الكرة الغربي. كما يتوجب على واشنطن أن توضح لجيرانها - بصورة حازمة - أن أي وجود عسكري صيني أو روسي في نصف الكرة الغربي يمثل خطًا أحمر، بما في ذلك في قناة بنما، التي تمر عبرها 40% من إجمالي حركة الحاويات الأمريكية. وفي الوقت نفسه، ورغم أن الفكرة قد تبدو بعيدة المنال، فإن توسيع خط الدفاع الأمريكي شمالًا ليشمل غرينلاند يعد أمرًا ضروريًا لمواجهة التغلغل الروسي في القطب الشمالي ولتوفير إنذار مبكر ضد أي هجوم نووي محتمل. أما التهديدات القادمة من الشرق، تنادي المجلة الأمريكية بالتركيز على الصين دون تردد. إذ يبلغ حجم التبادل التجاري بين الولاياتالمتحدة ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ ما يقرب من تريليوني دولار سنويًا، كما تستقبل الولاياتالمتحدة ما يقرب من تريليون دولار في شكل استثمارات أجنبية مباشرة. اقرأ أيضا| تسريح 5400 موظف أمريكي تحت الاختبار بدءًا من الأسبوع المقبل أضف إلى ذلك اعتماد الصناعات الأمريكية، من الهواتف الذكية إلى الحواسيب الفائقة، على التدفق المستمر لأشباه الموصلات المتطورة من تايوان. ونظرًا للوتيرة الحالية، فمن غير المرجح أن تتخلص واشنطن من اعتمادها على الرقائق التايوانية المتقدمة قبل منتصف ثلاثينيات القرن الحالي. لذا، فإن مستقبل الاقتصاد الأمريكي - ورفاهية الطبقة العاملة الأمريكية - يعتمد على الوصول غير المنقطع إلى آسيا، وهو ما قد يتعرض للخطر في حال ضمت الصينتايوان. وحددت المجلة الأمريكية 3 أركان رئيسية تقوم عليها السياسة الخارجية لخدمة الطبقة العاملة، بما يعيد تعريف دور أمريكا في العالم بطريقة تخدم جميع مواطنيها، تتمثل هذه الأركان الثلاثة في: أولًا: ضمان حماية الأمريكيين من التهديدات الأمنية، وتوفير فرص اقتصادية مستدامة. ثانيًا: إحياء الصناعات المحلية وتوفير برامج تعليمية تواكب متطلبات سوق العمل الحديث ثالثًا: تعزيز نموذج اقتصادي يخدم المصلحة الوطنية ويقلل من الفجوة بين الطبقات. ◄ استعادة القوة الصناعية الأمريكية في السياق ذاته، اعتبرت المجلة الامريكية تبني الحزبان السياسيان في الولاياتالمتحدة، على مدار ما يقرب من ثلاثة عقود، الاعتقاد بأن الأسواق الحرة ستؤدي حتمًا إلى مجتمعات أكثر حرية وديمقراطية أثبتت فشلها، ما دفع الديمقراطيين والجمهوريين للتراجع عن هذا التصور لاحقًا. واستشهدت بتصريح مستشار الأمن القومي آنذاك، جيك سوليفان في مايو 2023، حيث ألقى باللوم على السعي وراء «تحرير التجارة كغاية بحد ذاتها» في تدمير القاعدة الصناعية الأمريكية. كما استشهدت أيضًا بتنديد وزير الخارجية ماركو روبيو، خلال جلسة التصويت على تعيينه في الكونغرس، بالتزام النخبة الأمريكية بالتجارة الحرة غير المقيدة على حساب الاقتصاد الوطني، لافتاً إلى أن ذلك أدى إلى تقلص الطبقة العاملة، وانهيار القدرات الصناعية، ونقل سلاسل التوريد الحيوية إلى أيدي المنافسين والخصوم. وخلصت المجلة الأمريكية إلى العمل نحو إعادة بناء قلب أمريكا الصناعي، من خلال تدريب الأيدي العاملة التي ستنهض به. لذا، يتعين على واشنطن إعادة توجيه الموارد نحو التعليم الفني التطبيقي بدلًا من الاستمرار في تمويل نظام تعليمي عام غير قادر على تلبية متطلبات الاقتصاد الصناعي الحديث. فبهذه الطريقة، سيتم تجهيز جيل جديد من العمال بالمهارات اللازمة لدفع عجلة الصناعات عالية الأجر وعالية التقنية، مما يعيد إحياء الابتكار والازدهار الأمريكيين، وفق المجلة الأمريكية.