محاولة الأزهر الشريف دراسة إمكانية تعريب العلوم جديرة بالمساندة، والدعم رغم أنها ليست المحاولة الأولى مصريًا ولا عربيًا حالة من البهجة تنسرب إلى النفس، قادرة على إذابة توترات الحياة وقلقها الضاغط؛ فقط شاهد التلفاز أو مقاطع الفيديو لينشرح صدرك، وتُدرك أن ها هنا جنة لله على الأرض، اسمها الجامع الأزهر الشريف؛ فما بالك إن شاركت فى هذه التجليات، وكنت أحد حضورها بجسدك وروحك!.. رؤية صلاة التراويح من الجامع الأزهر بأصوات مشايخ علم القراءات لها جلالها الغامر، وتأثيرها فى التوازن النفسى للإنسان المعاصر الذى يحتاج إلى إعادة ضبط مصنع كل حين؛ خاصة أن الصلاة تكون بالقراءات العشر المتواترة، مما يُسهم فى إعادة اكتشافنا للجماليات الصوتية للنصّ القرآني. وفى هذا العام كان الجمال مُضاعفًا، وارتقت الروحانية إلى معارج السماء، بعد القرار الجريء بإعطاء الثقة الكاملة لشباب القراء والسماح لهم بإمامة مشايخهم؛ وهى الخطوة التى لاقت إعجابًا كبيرًا من العالم الإسلامى كله، وكشفت عن مخبوءات الكنوز الأزهرية التى كانت تنتظر الكشف عنها وإجلاءها إلى الدنيا؛ ثم تأتى الخطوة الأكثر عملية والتى هندسها د. محمد الضويني، وكيل الأزهر، وأعلنتها الإدارة العامة للجامع الأزهر بقيادة د. هانى عودة، وهى تدشين مشروع مدرسة التلاوة المصرية، بهدف اكتشاف الأصوات الموهوبة من الأزهر وكل ربوع مصر؛ وهو الأمر الذى يُعزز الهوية المصرية عند الشباب، ويُرسّخ لتلك المدرسة القرآنية المصرية الضاربة بجذورها فى أرضنا الطيبة. هل يتحدث العلم العربية؟ نالت الكثير من الرفض قبل حتى أن تبدأ عملها؛ الكثير من السخرية المريرة، والحضّ على الانهزامية والتراجع، بحجة أننا لن نستفيد من عملها شيئًا، ولن تُقدم جديدًا، وأن علينا أن نكون منتجين للعلم حتى ننتج اللغة التى تليق به.. لا شك أن كل الأفكار والآراء قابلة للتفاوض والنقاش؛ بشرط أن تكون بعيدة تمامًا عن إزاحة غيرها إلى خانة التسفيه والتعمية. محاولة الأزهر الشريف دراسة إمكانية تعريب العلوم جديرة بالمساندة، والدعم رغم أنها ليست المحاولة الأولى مصريًا ولا عربيًا؛ ولكنها تأتى فى وقت شديد الضبابية حول المستقبل العربى كله، وليس فقط لغته الأم التى تتأذى كل يوم من أفكار العولمة، التى لا تعترف بغير القوة الغالبة التى يتماهى فيها كل شيء آخر: اللغة الأكثر تفاعلًا مع الواقع ستبتلع باقى اللغات، والاقتصاد الأقوى سيُهيمن على الأضعف.. وقد يبدو أن العولمة تتجه إلى الاقتصاد فى المقام الأول؛ ولكن الحقيقة أنها غزو ثقافى كامل، يسعى إلى محو الثقافات الوطنية وإخضاعها لقواعد عالمية تختزل أدوار الحكومات وتفسح المجال لدور الفرد؛ وهى أمر قائم، شئنا أم أبينا، خاصة مع هذا التدفق الكبير لحرية المعلومات ووسائل الاتصال؛ ومن هنا يجب أن نحتاط من سلبياتها التى تؤثر على الهوية الوطنية بالتركيز على وسائل تعميق الشعور القومى عند الشباب وزيادة جرعات الروح المصرية بالمدارس ووسائل الإعلام لتكون ردءًا لنا من مخاطر هذه الغيوم الاغترابية. ربما لا يعرف الكثيرون أن مدرسة طب قصر العينى التى قامت على البعثات العلمية إلى أوربا كان تُدرّس العلوم باللغة العربية؛ بناء على نظرية كلوت بك الذى كتب إلى محمد على باشا يقول: «إن التعليم بلغة أجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة، كما لا ينتج عنه توطين العلم أو تعميم نفعه»؛ وظل تعليم الطب باللغة العربية حتى سنة 1903م، عندما أصدر اللورد كرومر، المندوب السامى البريطاني، قرارًا بإلغائه وتعميم اللغة الإنجليزية فى إطار خطته الإجرامية «لجلنزة» مصر. اللغة جزء رئيسى من هويتنا العربية، وبحث مستقبلها أمر واجب على كل المؤسسات التعليمية؛ بعيدًا عن المنشورات الفارغة والحرب الكلامية على وسائل التواصل؛ فالأمر جدير بالنقاش الجاد بين كل الأطياف الثقافية والتعليمية؛ فالحركة فى ذاتها خطوة مهمة وإن كانت فى المكان؛ والشك هو الوسيلة الأقرب لبلوغ اليقين الحقيقي؛ بعيدًا عن أوهام اليقين الزائف؛ فالثبات موات، والأفكار يجب أن تتواصل لمحاولة إنتاج حضارتنا التنويرية مرة أخرى؛ ونحن قادرون على ذلك، بشرط دراسة المحاولات السابقة والبدء من حيث انتهى الآخرون؛ حتى لا تُصبح جهودنا دخانًا فى الهواء. أزمة منتصف العمر! هل يملك الرجل الجرأة ليزعم أنه قد فهم المرأة أو حتى اقترب من عقلها؟ هل تستطيع المرأة أن تدَّعى الإحاطة بمزاج الرجل وإدراك أحابيله الغالبة التى تجعل من كيد المرأة وحيلتها ألعوبة بين يديه؟. هذه هى أسئلة الوهم اللذيذ الذى دفع بصديقتى أن تنظر إلى كلامى الهادئ الرزين وتقول بكل ثقة: أنت لديك أزمة منتصف العمر!.. فأندهش لهذا الحُكم القاطع، وأقول ضاحكًا: يا خبر أسود!، أعلم أننى مأزوم، ليس فى منتصف العمر وحده، وإنما طوال العمر، بداياته كنهاياته؛ وأعتقد أن الأزمة الحقيقية هى ألا نعترف بالأزمات التى تُلاحقنا، خاصة تلك التى تنتظرنا فى منتصف الطريق! ولكن صديقتى لا تقنع بهذه الإجابة، وتعدّها من الفلسفة الفارغة للرجال الذين دائمًا ما يجعلون من كل أمر جاد مادة للسخرية والاستهزاء؛ وتقول: إن كل ردود أفعالك تنبئ أنك تعيش أزمة حقيقية، ولا بد أن تعالج نفسك عند طبيب نفسى متخصص؛ فأقول مازحًا: أو طبيبة؛ فربما تكون المرأة أقدر على العلاج النفسى من الرجل!. نظرة..! للعين أهمية بالغة فى الحياة الاجتماعية العربية باعتبارها المرايا الأولى التى يرى من خلالها الإنسان نفسه والمحيطين به؛ فكل شيء يبدأ منها ولكنه لا ينتهى عندها؛ ونظرة العين هى ذلك الشيء الذى يحمل كل متناقضات الدنيا: يُحب ويكره، يُقبل ويُدبر، يقول ويسكت، يجرح ويُداوي.. وعند فتوات نجيب محفوظ تكفى «الزغرة» من رجال الفتوة ليهرب الحرافيش؛ وهم أنفسهم الذين يطلبون «نظرة» من الست أم هاشم وسيدنا الحسين لتنفك كروبهم وتنحلّ عُقدهم. والنظرة هى بداية خيط الحب، بحسب مقياس الشاعر أحمد شوقي: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء.. وهى أيضًا النظرة التى قد تكون واجبة عليك، وفى أوقات أخرى تكون وبالًا عليك؛ فعند الخطبة تدقيق النظر إلى المخطوبة واجب حتى تستقيم الحياة الزوجية على المعرفة التامة ظاهرًا وباطنًا، وأدعى إلى الاستقرار والدوام؛ وفى غير ذلك تكون النظرة الأولى لك والثانية عليك؛ لأنها نظرة المستهتر العابث. ونظرة الرضا تتجاهل العيوب، ولا ترى إلا المزايا والفضائل؛ فى حين أن عين السخط تُبدى المساويا، كما يقول الشاعر.. وقد أدرك سائقو التكاتك أفاعيل النظرة، وخافوا سهامها، فكتبوا على ظهر التوكتوك: «عضة أسد ولا نظرة حسد!»؛ وعند سبوع المواليد يكتبون: «متبصليش بعين ردية دى ماما تعبت فيا»؛ ومن قبل أشارت إليها وصايا قدماء المصريين فى البرديات، عندما قالوا إنه: يجب ألا تنظر باحتقار إلى أخيك. وإذا كان النظر هو ترمومتر القلب الذى يقيس به مكانة المُقرّبين منه؛ فإن العقل هو الضابط لأى انفلات من هذا الترمومتر الذى لا يقرّ على قرار.. وفى كل الأحوال لا بد أن يكون عند الإنسان «نظر» ويظل فى حاله! من تراثنا الثقافى يقول الأستاذ العقاد: «وإيتاء العظمة حقَّها لازمٌ فى كل آونة وبين كل قبيل.. ولكنه فى هذا الزمن وفى عالمنا هذا ألزم منه فى أزمنة أخرى؛ لسببين متقاربين لا لسبب واحد: أحدهما أن العالم اليوم أحوج مما كان إلى المصلحين النافعين لشعوبهم وللشعوب كافة.. ولن يُتاح لمُصلح أن يهدى قومه وهو مغموط الحق، مُعرَّضٌ للجفوة والكنود. والسبب الآخر أن الناس قد اجترأوا على العظمة فى زماننا بقدر حاجتهم إلى هدايتها.. فإن شيوع الحقوق العامة قد أغرى أناسًا من صغار النفوس بإنكار الحقوق الخاصة؛ حقوق العلية النادرين الذين يُنصفهم التمييز وتظلمهم المساواة». - قال الجنيد: «الإخلاصُ سرٌّ بين الله تعالى وبين العبد، لا يعلمه ملكٌ فيكتبه، ولا شيطان فيُفسده، ولا هوى فيُميله».