مع تصاعد التوترات العالمية، يضع رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر نصب عينيه هدفًا واضحًا: تعزيز قوة بريطانيا العسكرية تحت شعار "السلام بالقوة"، مستلهِمًا نهج الولاياتالمتحدة التقليدي. لكن ما وراء هذه الأجندة يتجاوز مجرد تعزيز الأمن القومي، فهو مرتبط أيضًا بالحفاظ على العلاقات الوثيقة مع واشنطن وإعادة تموضع بريطانيا في المشهد الجيوسياسي. فلطالما ضغطت الولاياتالمتحدة على بريطانيا لزيادة إنفاقها العسكري، لكن مع تغيّر القيادة في واشنطن وعودة الرئيس الأمريكي/ دونالد ترامب لرسم ملامح السياسة الأمريكية تجاه أوروبا، قرر ستارمر التحرك. حيث أعلن كير ستارمر، عن زيادة قدرها 6 مليارات جنيه إسترليني في الإنفاق العسكري السنوي اعتبارًا من عام 2027، ممولةً جزئيًا من تخفيضات في المساعدات الخارجية، مع تأجيل اقتطاعات من برامج الرعاية الصحية والاجتماعية، لتبرز هذه الخطوة تحوّلًا جذريًا في أولويات الحكومة، حيث بات تعزيز الجيش يُقدَّم على دعم الفئات الأكثر احتياجًا. اقرأ أيضًا| «معهد ستوكهولم» يكشف مدى هيمنة الأسلحة الأمريكية على سوق الدفاع الأوروبي أجندة جيوسياسية على الرغم من الحديث عن تحفيز الاقتصاد البريطاني من خلال عقود دفاعية ضخمة، إلا أن قطاع الصناعات العسكرية في بريطانيا لا يوفر سوى 0.83% من الوظائف، ما يجعله ذا تأثير محدود على الاقتصاد المحلي، وفقًا لموقع «نوفارا ميديا» البريطاني. وفي الواقع، يتماشى هذا القرار مع استراتيجية أوسع تهدف إلى الحفاظ على "العلاقة الخاصة" مع الولاياتالمتحدة، وليس بناء قوة عسكرية مستقلة للاتحاد الأوروبي، حيث يسعى رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، إلى تعزيز الدور العسكري البريطاني على الساحة الدولية، ولكن ضمن إطار يخدم المصالح الأمريكية أكثر من كونه يخدم بريطانيا بشكل مباشر. الإرث العسكري البريطاني بحسب الموقع البريطاني ذاته، يمكن أن يكفي لفهم دوافع ستارمر هذه، إلقاء نظرة على التاريخ العسكري البريطاني الحديث، فبين عامي 2001 و2014، أُرسل أكثر من 250 ألف جندي بريطاني للمشاركة في غزوي العراق وأفغانستان، وهما صراعان أوديا بحياة مئات الآلاف، ليس فقط بسبب المعارك، ولكن أيضًا نتيجة انهيار البنية التحتية الصحية والاقتصادية. واليوم، يتكرر المشهد مع إعلان ستارمر عن "تحالف الراغبين" لدعم أوكرانيا. لكن لا يقتصر الدور العسكري البريطاني على الدفاع عن أراضي المملكة المتحدة، بل يمتد إلى شبكة قواعد حول العالم، من قبرص إلى المحيط الهندي والخليج. ومنذ أكتوبر 2023، تحوّلت القواعد البريطانية في قبرص إلى مراكز دعم لوجستي لنقل شحنات عسكرية استخدمتها إسرائيل في عملياتها بغزة. كما تتفاوض بريطانيا لدفع 9 مليارات جنيه إسترليني لموريشيوس لاستئجار أراضٍ في جزر تشاجوس لإقامة قاعدة عسكرية مشتركة مع القوات الجوية الأمريكية، لتوضح هذه التوسعات العسكرية طموح بريطانيا في الحفاظ على وجودها العسكري العالمي، حتى وإن كان ذلك خارج إطار الدفاع الوطني المباشر. هل ينجح ستارمر في رهانه العسكري؟ بين الضغوط الأمريكية، وإعادة التموضع العسكري، والتخفيضات في الميزانيات الاجتماعية، تبدو سياسة رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر أشبه بمقامرة تهدف إلى تعزيز موقع بريطانيا كحليف رئيسي لواشنطن،، لكن السؤال الأهم: هل ستؤدي هذه الاستراتيجية إلى تعزيز أمن بريطانيا، أم أنها مجرد خطوة أخرى نحو التبعية للسياسات الأمريكية؟ فيما تسعى الحكومة البريطانية إلى تعزيز قدراتها العسكرية عبر قوة رد فعل عالمية قادرة على التدخل جوًا وبرًا وبحرًا في أي مكان وزمان تختاره. وتأتي هذه الطموحات، جنبًا إلى جنب مع إنفاق هائل يُقدر ب 117.8 مليار جنيه إسترليني خلال العقد القادم، لضمان بقاء الأسلحة النووية البريطانية في البحر بشكل دائم، رغم اعتماد بريطانيا الفعلي على الولاياتالمتحدة في تشغيلها عند الحاجة. اقرأ أيضًا| أوروبا تستقل عن واشنطن.. خطة دفاعية كبرى دون الولاياتالمتحدة «التهديد الروسي».. حقيقة أم تهويل؟ لم تُحدث تصريحات رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، أي تغيير في هذه الاستراتيجية العسكرية الشاملة، بل تستند الحكومة إلى فرضية غير مؤكدة بأن روسيا قد توسّع عملياتها العسكرية إلى بقية أوروبا، رغم التكاليف الباهظة التي تحملتها لمجرد السيطرة على خُمس أوكرانيا. وبينما تُطرح زيادة الإنفاق العسكري كمبرر لتعزيز أمن أوروبا، تبدو بريطانيا أكثر ميلاً إلى دعم أوكرانيا عبر تصدير الأسلحة بدلاً من الانخراط المباشر في خطط دفاعية إقليمية. فخلال الحرب الروسية الأوكرانية، قدمت بريطانيا مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة 3 مليارات جنيه إسترليني سنويًا، في حين أنفقت أكثر من 30 مليار جنيه إسترليني سنويًا للحفاظ على قوتها العسكرية العالمية. لكن في ظل هذا التوجه، لم يُطرح سؤال جوهري: هل تخدم إعادة التسليح البريطاني بالفعل الأمن القومي؟؟، أم أنها مجرد محاولة للحفاظ على مكانة بريطانيا العسكرية عالميًا؟ رغم حديث الدول الأوروبية عن استقلالها العسكري، فإن سياسة إعادة التسلح تعزز ارتباطها العميق بالمجمع الصناعي العسكري الأمريكي. فمنذ عام 2020 وحتى 2024، ضاعفت الدول الأوروبية وارداتها من الأسلحة، حيث جاء نحو ثلثيها من الولاياتالمتحدة، أما بريطانيا، فكانت ثاني أكبر مستورد للأسلحة في أوروبا، إذ بلغت نسبة مشترياتها من السلاح الأمريكي 86%، ما يعني ضخ مليارات الجنيهات في الاقتصاد العسكري الأمريكي بدلاً من بناء قدرات دفاعية محلية. اقرأ أيضًا| وثائق سرية.. بريطانيا شريك غير معلن في حماية ديكتاتور شيلي من العدالة «لحظة فوكلاند».. هل تمنح ستارمر دفعة سياسية؟ في داونينج ستريت، (مكان إقامة رئيس الوزراء البريطاني)، يبدو أن الحكومة البريطانية ترى في الظروف الحالية فرصة لإعادة إنتاج "لحظة فوكلاند"، التي قد تمنح أجندة كير ستارمر دفعة قوية، خاصة مع الحماس الإعلامي لدعم زيادة الإنفاق العسكري البريطاني. وتُظهر استطلاعات الرأي تأييدًا كبيرًا لهذا التوجه، حيث وافق أكثر من 40% من البريطانيين على زيادة الميزانية الدفاعية، حتى لو كان ذلك يعني زيادة الضرائب أو خفض تمويل الخدمات العامة. لكن عند النظر إلى الصورة الأشمل، يتضح أن الأولويات العامة قد تتغير على المدى المتوسط، حيث أُجري استطلاع رأي في يناير الماضي أظهر أن نسبة أكبر من البريطانيين اعتبرت تمويل الخدمات العامة أكثر أهمية من الإنفاق العسكري، وإذا فرضت واشنطن تسوية سياسية ل الحرب الروسية الأوكرانية، وبدأت تخفيضات مالية صارمة، فقد تنخفض حدة الخطاب العسكري عندما تُواجه الحكومة تبعاته الاقتصادية. والآن، يبدو أن الحكومة البريطانية عازمة على الاستمرار في أجندة "إعادة التسلح" بغض النظر عن التكاليف الاجتماعية والاقتصادية، أما أحد أبرز القطاعات التي قد تتأثر هو تطوير الطاقة الخضراء، حيث تدرس وزارة الخزانة البريطانية خفض استثماراتها فيه لصالح الميزانية العسكرية. وبينما يمكن للاستثمار في الصناعات الخضراء والخدمات العامة أن يعزز قوة بريطانيا الاقتصادية، إلا أن حزب العمال بزعامة ستارمر يواصل المضي قدمًا في تعزيز التواجد العسكري العالمي بأي ثمن.... فهل ستستطيع بريطانيا تحقيق التوازن بين طموحاتها العسكرية واحتياجاتها الاقتصادية، أم أنها تسير نحو عبء يصعب تحمله مُستقبلاً؟