السياسات التي يقودها الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» أدت إلى هزةً عالمية، تمتد آثارها من مقاعد الديمقراطيين في واشنطن إلى وسائل الإعلام الرئيسية، وصولًا إلى قادة الاتحاد الأوروبي في مختلف أنحاء القارة. وتُثير هذه السياسات تساؤلات حول مستقبل التحالفات العالمية، حيث قد تُؤدي إلى تغييرات جذرية في بنية حلف شمال الأطلسي «الناتو» كما عرفناه. فى الوقت نفسه، تُظهر الولاياتالمتحدة رغبة فى استحواذات استراتيجية على مساحات شاسعة من الأراضي في نصف الكرة الغربي، بما فى ذلك كندا، وغير ذلك من الأراضي. ◄ بنما وجرينلاند جزء من استراتيجية كبح روسياوالصين ◄ سياسات الرئيس الأمريكي تستهدف إضعاف اوروبا اقتصاديًا تأتى هذه التغيرات الجيوسياسية المتسارعة في ظل تحول جوهرى تحت إدارة ترامب، التى تهدف إلى إعادة هيكلة الإمبراطورية الأمريكية، وتوسيع نطاق السلطة التنفيذية، عبر سياسات تشمل فرض التعريفات الجمركية، إلغاء الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ومساعى إنهاء الصراع الروسى الأوكرانى، وتأثيراتها العميقة على التوازنات العالمية. بدأت الإمبراطورية الأمريكية، فى عهد الرئيس ترامب، بإعادة تقييم التزاماتها الخارجية الباهظة، لا سيما في أوروبا والشرق الأوسط. رأى ترامب فى الحرب فى أوكرانيا - التى بلغت تكلفتها 350 مليار دولار - إهدارًا للمال وفقًا لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، وكذلك فى مشاركة الولاياتالمتحدة فى الناتو، الذى اعتبره عبئًا ماليًا غير ضرورى على دافعى الضرائب الأمريكيين. تمثلت سياسته فى إجبار الحلفاء الأوروبيين على تمويل دفاعاتهم بأنفسهم، مما أدى إلى خفض الإنفاق الأمريكي على الصراعات الخارجية، كما بدأت الولاياتالمتحدة فى التركيز بشكل أكبر على مصالحها الاستراتيجية في نصف الكرة الغربي، لا سيما فى القطب الشمالى وقناة بنما. واعتُبرت جرينلاند والأراضى الشمالية لكندا حيوية لتطوير استراتيجية خاصة بالقطب الشمالى، لا سيما مع تنامى نفوذ روسياوالصين فى المنطقة؛ مما يفتح الطريق أمامهما للانتقال إلى أوروبا. وسعت الولاياتالمتحدة إلى السيطرة على القطب الشمالى ومنع تدفق الشحن الصينى، بالإضافة إلى استغلال موارد جرينلاند النادرة. في بنما، سعت الولاياتالمتحدة إلى الحد من نفوذ الصين المتزايد فى المنطقة، حيث كانت الصين تستثمر بكثافة فى البنية التحتية البنمية. كما سعت أيضًا إلى الحفاظ على سيطرتها على قناة بنما، ذات الأهمية الاستراتيجية للمصالح العسكرية والتجارية الأمريكية. كان استحواذ شركة «بلاك روك» الأمريكية على موانئ فى بنما جزءًا من هذا الجهد الأوسع للحفاظ على هيمنة الولاياتالمتحدة فى المنطقة. ولطالما شكّلت سياسة ترامب التجارية حجر الزاوية فى رئاسته، وكانت التعريفات الجمركية أداة رئيسية لها. فرض رسومًا جمركية على شركاء تجاريين رئيسيين، بما فى ذلك الصينوكندا والمكسيك، مدعيًا أن هذه الإجراءات ستحمى الصناعات والوظائف الأمريكية، وفقًا لموقع «أكسيوس» الأمريكى، إلا أن هذه الإجراءات أدت إلى حرب تجارية عالمية. كانت سياسة ترامب فى فرض الرسوم الجمركية أداةً أخرى استُخدمت لفرض نفوذ الولاياتالمتحدة وتقليص التزاماتها الخارجية. هناك هدفان لرسوم ترامب الجمركية؛ الأول هو ترهيب الحلفاء سياسيًا، ومن جهة أخرى، لتحقيق أهداف سياسية. ورغم فشل استراتيجية ترامب التجارية فى كبح جماح الصعود الاقتصادى للصين، إلا أنها حققت إيراداتٍ كبيرة، أُعيد توجيهها لتمويل برامج الأسلحة للحفاظ على التفوق التكنولوجى الأمريكى فى مجالات مثل تكنولوجيا الطائرات بدون طيار والذكاء الاصطناعي. كما ركزت سياسات ترامب على إضعاف أوروبا اقتصاديًا، حيث سعت الولاياتالمتحدة إلى جعل الدول الأوروبية أكثر اعتمادًا على الصناعة الأمريكية، وخاصةً فى قطاع الدفاع. ويرى الكاتب الأمريكى «جاك راسموس» مؤلف العديد من الكتب حول الولاياتالمتحدة والاقتصاد العالمى، أن الجنوب العالمى الصناعى لاعب رئيسى فى العالم الآن، وهو اللاعب الرئيسى المستقبلى، ويمكن لمجموعة البريكس أن تُقوِّض الدولار والعملة ونظام الدفع الدولى. ويضيف راسموس أن جناح ترامب من الرأسماليين يدرك ذلك، ويحاول التوجه نحو الجنوب العالمى، ولكن لتحقيق ذلك، عليهم وضع حد لفوضى أوكرانيا، ثم عليهم الانسحاب ماليًا من أوروبا، وهو ما سيفعلونه. تُعتبر هذه المرحلة الجديدة من الإمبريالية الأمريكية بمثابة إعادة هيكلة للإمبراطورية، على غرار التحولات العالمية السابقة بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، تتخلى الولاياتالمتحدة عن التزاماتها الخارجية المكلفة وتركز على تعزيز قوتها فى نصف الكرة الغربى والحفاظ على التفوق التكنولوجى والعسكرى. ومع ذلك، واجهت إعادة الهيكلة هذه مقاومة من داخل الولاياتالمتحدة نفسها، وخاصة من الحرس القديم للحزب الديمقراطي والمؤسسة البيروقراطية، التى استفادت من الوضع الراهن. في قلب إعادة الهيكلة هذه، تكمن طبقة المليارديرات، التى استمرت فى الاستفادة من السياسات الأمريكية. وقد أدت جائحة كورونا إلى تفاقم عدم المساواة فى الثروة، حيث زادت ثروات المليارديرات بشكل كبير، بينما دُفع ملايين الناس إلى براثن الفقر، ولعبت السياسات النقدية للاحتياطى الفيدرالى دورًا رئيسيًا فى نقل الثروة إلى أغنى الأمريكيين. وقد عزز هذا التركيز للثروة النفوذ السياسى للرأسماليين، الذين يواصلون تشكيل السياسات الأمريكية بما يخدم مصالحهم.