«حاول يوسف السباعى أن يفرض الفصحى على أبطال قصته، لكنه سرعان ما وجدهم يتمردون عليه، وكأنهم يرفضون أن يُجردوا من أصواتهم الحقيقية.» جمعة العمل.. وجمعة النور لأعوام طويلة، كان يوم الجمعة يمثل بالنسبة لى أكثر الأيام مشقة وضغطًا، فهو اليوم الذى يسبق صدور جريدة «أخبار اليوم»، حيث تصل ذروة العمل إلى أقصاها، وتنشغل العقول والأقلام فى سباق مع الزمن، لإنجاز الصفحات قبل الطباعة، ظل هذا اليوم لسنوات عديدة بمثابة اختبار أسبوعى للصبر والتحمل، إلا أننى حرصت دائما على استقطاع وقت أخصصه لقراءة سورة الكهف، متشبثة بوعد النور الذى يمتد بين الجمعتين لمن يقرأها. وأعترف أننى طوال تلك السنوات لم أتوقف عند المعانى العميقة التى تربط بين القصص الأربع التى تتضمنها السورة الكريمة، إلى أن جاءنى منشور من أحد الأصدقاء، حمل بين كلماته مفتاحًا لفهم عميق كنت أغفله، وعرفت أن القصص التى تتضمنها السورة هى الفتن الكبرى التى قد تعترض طريق الإنسان فى حياته، «فتنة الدين» وتجسدت فى قصة أهل الكهف، أولئك الفتية الذين وجدوا أنفسهم بين خيارين، إما أن ينصاعوا للباطل، أو يثبتوا على إيمانهم، فاختاروا طريق الصمود، وكان جزاؤهم أن حفظهم الله برحمته. تأتى فتنة المال فى قصة صاحب الجنتين، ذلك الرجل الذى أغراه ثراؤه وأعماه عن الحقيقة، فكان مصيره أن رأى ثروته تتبدد، ليصبح درسًا لكل من يعتقد أن المال حصن منيع لا يزول. أما فتنة العلم، فتجسدت فى لقاء النبى موسى بالخضر، حيث تعلم موسى أن العلم بحر واسع لا يمكن الإحاطة به، وأن الحكمة ليست دائمًا فيما تدركه عقولنا التى مهما أوتيت من علم محدودة. وأخيرا «فتنة السلطة» فى قصة ذى القرنين، القائد العادل الذى امتلك من القوة ما يكفى لجعل الأمم تخضع له، لكنه أدرك أن النفوذ اختبار، وأن العدل هو الميزان الحقيقى لكل قوة. ما أعظم القرآن الكريم! الدستور الذى يرشدنا إلى صواب الطريق، فإذا تمسكنا به، نجونا من الفتن، وتحقق لنا وعد الله بالنور الممتد من جمعة إلى جمعة، ليضىء حياتنا قبل آخرتنا.. اللهم اكفنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن. تأملات مع يوسف السباعي فى لحظة تأمل صامتة، وقف يوسف السباعى أمام أوراقه، يحاول أن ينسج روايته الجديدة، لكنه وجد نفسه محاصرًا بصراع قديم حديث: هل يكتب بلغة الضاد، أم يستسلم لنغمة الحياة اليومية، حيث تنبض الشخصيات بالحياة بلهجتها الطبيعية؟ لم يكن هذا التساؤل مجرد هاجس عابر، بل كان امتحانًا حقيقيًا لقناعاته الأدبية، إذ كان عليه أن يقرر أيهما أكثر صدقًا: الالتزام بالفصحى أم مجاراة الواقع؟ هذا الصراع لم يكن وليد لحظة الكتابة، بل سبقته لحظة إدراك، حين أخبره أحد كبار مفتشى وزارة المعارف أن كتبه كادت تُدرج ضمن مناهج الوزارة، لولا أنها تحمل بين طياتها ألفاظًا عامية، وهو ما رأت اللجنة أنه لا يليق بالأدب المدرسى، لم يكن السباعى قد كتب قصصه وهو يضع الوزارة فى اعتباره، إلا أن هذه الواقعة أشعلت بداخله رغبة فى تحدى الذات، فقرر أن يبدأ روايته الجديدة «السقا مات» وهو يضع فى ذهنه حاجزًا منيعًا يحول دون تسلل العامية إلى النص، لكنه سرعان ما أدرك أن الشخصيات لا تخضع لقواعد صارمة، وأنها ترفض بإصرار أن تتحدث بغير صوتها الحقيقى. حاول يوسف السباعى أن يفرض الفصحى على أبطال قصته، لكنه سرعان ما وجدهم يتمردون عليه، وكأنهم يرفضون أن يُجردوا من أصواتهم الحقيقية. وجدهم ينطقون بالعامية رغمًا عنه، فتخلى عن محاولاته العقيمة، مدركًا أن الأدب ليس سجنًا لغويًا، بل هو مرآة تعكس نبض الحياة، كان يدرك أنه يكتب للعامة أكثر مما يكتب للخاصة، وأن هؤلاء العامة بحاجة إلى أدب يخاطبهم بلغة يفهمونها، دون أن يكون ذلك انتقاصًا من قيمة العمل الأدبى. تذكر السباعى كيف أُعجب برواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ، فأعطاها لعمه الأديب طه السباعى باشا ليأخذ رأيه، فجاءت المفاجأة حين قال له إن الرواية رائعة، لكنها لو كُتبت بحوار عامى لبلغت قمة الروعة، كما تذكر «عودة الروح « لتوفيق الحكيم، والتى جاءت حواراتها بالعامية، رغم أن كاتبها نفسه ترفّع لاحقًا عن استخدامها، كل هذه الشواهد عززت قناعته بأن الأدب لا يُقاس بمدى التزامه بالفصحى، بل بمدى صدقه فى نقل المشاعر والأحاسيس. لم يكن ذلك محاولة لتبرير اختياراته اللغوية، بل كان بمثابة تأمل عميق فى جدلية لا تزال قائمة حتى اليوم: هل اللغة الفصحى قيدٌ على الإبداع، أم أن العامية تسرق من الأدب جلاله وهيبته؟ السباعى لم يكن يطمح إلا إلى كتابة أدبٍ حى، يصل إلى القارئ بلا حواجز، محركًا مشاعره وأحاسيسه، دون أن يقع فى فخ التصنع والتكلف، «السقا مات» ليست مجرد قصة عن الموت والحياة، بل انعكاسًا لصراع داخلى عاشه الكاتب، ووثقه بنفسه فى مقدمة روايته التى بدأت أعيد قراءتها منذ أيام، واتابع ذلك الصراعٌ بين التقاليد الأدبية الجامدة وحرية التعبير الصادقة، وحين استسلم الكاتب لشخصياته وتركها تنطق بلغتها، لم يكن ذلك هزيمةً للفصحى، بل كان انتصارًا للأدب الصادق، الذى ينقل نبض الحياة دون تزويقٍ أو تصنّع، ومهما قيل عن الفصحى والعامية، فإن الأدب الحقيقى لا يقاس بلغة شخصياته، بل بقدرته على أن يكون مرآة صادقة للحياة، تنبض بالحقيقة، وتتحدث بصوت الإنسان أينما كان.. وما دام الهدف هو الوصول إلى روح الإنسان، فالكلمة، أيًا كانت لغتها، ستجد طريقها إليه. «قطايف».. فى زمن التفاهة فى زمنٍ باتت فيه «الترندات» تحكم قواعد النجاح ، وتُساق الأضواء لمن يرفع راية التفاهة، وتعج منصات التواصل بالصخب والاستعراض، يأتى برنامج «قطايف» ليقلب الطاولة على قواعد اللعبة، ويعيد ترتيب المشهد الرقمى بعفوية الفنان سامح حسين، لم يسقط فى فخ التهريج، إنما اختار أن يحيى تقاليد الحكى الهادف، وخلق حوارًا حقيقيًا مع جمهوره، لينتشله من طوفان السطحية إلى ضفاف الفكر، ويثبت أن المحتوى الهادف خيار لا يزال يحظى بإقبال واسع، وأن الجمهور ينجذب للمحتوى، ويبحث عن المعنى الذى يحترم وعيه ويخاطب عقله وروحه، وسط ضجيج اللا معنى. الكوميديان الذكى أطل علينا عبر صفحاته الشخصية ببرنامج يصنع من البساطة عمقًا، ومن الصدق وسيلةً للارتقاء بالعقل، يتناول فيه رسائل عميقة فى قوالب خفيفة، تجاوز به كل التوقعات، وبأسلوب ممتع وسلس، طرح أفكارا ترتقى بسلوك النفس البشرية، وتغذى المعانى الإنسانية، وترسخ القيم الإيجابية، لم يتجاوز البرنامج دقائقه المعدودة، لكنه جذب ملايين المشاهدات، دون استعراض أجوف أو بهرجة مفتعلة. المدهش أن القنوات والفضائيات، التى رفضت إنتاج البرنامج ، لم تتمكن من تحقيق نصف هذا النجاح بمحتواها المكلف، بينما استطاع «قطايف» أن يصبح حديث السوشيال ميديا، رغم بساطته وإمكاناته المتواضعة، صحيح أن سامح حسين لا يملك إمكانيات القنوات الكبرى، لكنه امتلك ما هو أهم: «الفكرة والصدق»، فرغم افتقار البرنامج لأى إعلانات أو دعم ترويجى من المنصات الشهيرة، تجاوز عدد متابعيه 10 ملايين على «فيسبوك»، و3 ملايين على «إنستجرام»، ومثلهم على «تيك توك»، وهو ما يعكس، تعطش المصريين لمحتوى جاد يحمل رسالة وقيمة، بعيدًا عن الابتذال والإثارة الرخيصة، ويؤكد ظمأ الجمهور لجرعة من الوعى فى زمن التصحّر الفكرى. لم يقتصر الإعجاب بالبرنامج على الجمهور وبعض زملائه الفنانين فحسب، بل امتد إلى دوائر رسمية، حيث كرّمه د. أسامة الأزهرى وزير الأوقاف، والكاتب أحمد المسلمانى رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، لكن المفاجأة الأكبر جاءت من الرئيس عبد الفتاح السيسى، الذى أشاد بالبرنامج خلال حفل إفطار القوات المسلحة، فى إشارة واضحة إلى أن الدولة تقدر المحتوى الهادف فى عصر يهيمن عليه الترفيه الاستهلاكى، واعتراف رسمى بقيمة المبادرات الإعلامية التى تخاطب وعى المجتمع. لقد وصف سامح حسين هذا النجاح ب»المعجزة»، لكن الحقيقة أن المعجزات لا تحدث من فراغ، بل تصنعها الفجوات التى يتركها الغثّ فى سوق المحتوى.. صحيح الفكرة ليست جديدة، لكنها تأتى فى وقتٍ ظن فيه الجميع أن الجمهور استسلم تمامًا لإغراءات «الترند»، وأدار ظهره لكل ما يحمل قيمة.