قلتُ له قبل أن أضغط زر إنهاء التسجيل: «أتمنى ألا يكون الحوار قد أزعجك» فأجابنى فورًا بنبرة تخالطها ابتسامة: «بل مزعج جدًا». ضحكتُ وضحك هو أيضًا، كأنها مزحة متفق عليها لا تحتاج إلى شرح. لكن حين استمعتُ إلى التسجيل مرة أخرى، لما يقرب من ثلاث ساعات، ووجدته ينتهى عند تلك الجملة، توقفتُ للحظات، ثم تجاوزتها. لم أشعر بغرابتها قدر ما رأيتُ فيها اتساقًا مع شخصية محمد الفخرانى، وروحه البادية فى كل نص يكتبه، فهو يهوى اللعب مع الكلمات، ومع العالم. حين تحاوره، تشعر أنك دخلت إلى أحد نصوصه، حيث لا شىء نهائى، وحيث الفكرة قد تتحول إلى كائن حى. يصنع الفخرانى، الذى يكمل عامه الخمسين بعد أيام، عوالمه. ثم يمنح الأشياء أصواتها الخاصة، ويتأمل كيف ستتحرك من تلقاء نفسها. قد تظن - مثلما فعلتُ - أن دراسته للجيولوجيا لها أثر فى أسلوب تعامله مع العناصر من حوله، لكنه يفاجئك بأن قرار اختياره لهذا المجال جاء مدفوعًا بفضوله للتعرف على العالم، وليس العكس. وقد منحه - بالفعل - فرصة لاكتشاف الأماكن المختلفة ومقابلة الناس ورؤية وجوه متعددة للدنيا، طوَّرها بقراءاته الغزيرة فى علم الفلسفة. حين أمسك بالقلم لأول مرة كى يكتب نصًا، وهو طالب فى المرحلة الثانوية؛ وجد أمامه قصيدة، وهذا ليس غريبًا، فالشعر - غالبًا - هو الوجهة الأولى للمبدعين. لكنه أدرك سريعًا أنه كاتب قصة لا شاعر، وراح يتجول فى العالم وفق ذلك، فكانت محطات تجواله الأولى هى القاهرة والإسكندرية والبحيرة، يتنقل بينها بكل حواسه، يلتقط التفاصيل، ويصغى للأصوات الخفية التى تمر دون أن يلاحظها الآخرون، ثم يعيد إنتاج كل ذلك بطريقته الخاصة، التى لا يكف عن التجريب فيها. لا يحدد الفخرانى مكانًا لأحداثه، ولا زمنًا واضحًا، بل يترك كل شىء مفتوحًا، عائمًا فى فضاء يمكن لأى قارئ أن يسقطه على واقعه الخاص، ويجيد الربط بين نصوصه بروابط غير مباشرة تجعلها تبدو كأنها قطع من عالم واحد، حتى وإن بدت منفصلة ظاهريًا، وقد صدر منها حتى الآن خمس مجموعات قصصية وسبع روايات، هى: بنت ليل (2002)، فاصل للدهشة (2006)، قبل أن يعرف البحر اسمه (2010)، قصص تلعب مع العالم (2011)، طُرق سرية للجموح (2013)، ألف جناح للعالم (2016)، عشرون ابنة للخيال (2017)، مزاج حر (2018)، أراك فى الجنة (2020)، لا تمت قبل أن تحب (2022)، غداء فى بيت الطباخة (2023)، وحدث فى شارعى المفضل (2024). حصل محمد الفخرانى على عدة جوائز أدبية، منها الجائزة الأولى لنادى القصة بالقاهرة عام 2002، وجائزة الدولة التشجيعية للقصة القصيرة عام 2012، وجائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة فى العام نفسه. تُرجِمَت روايته «فاصل للدهشة» إلى الفرنسية وحازت على جائزة معهد العالم العربى عام 2014، وفى 2024 نال جائزة أفضل رواية من معرض القاهرة الدولى للكتاب عن «غداء فى بيت الطباخة». لا يمكن أن نتحدث عن روايتك الأخيرة «حدث فى شارعى المفضل» دون التعامل معها كجزء من مشروع متكامل، بدأ تحديدًا بعد أربع سنوات من صدور «فاصل للدهشة». هل يمكن القول إنك قررت - حينها - الخروج من إطار الواقعية الشديدة إلى فضاء أوسع من الخيال؟ بل يمكن القول إن رواية «فاصل للدهشة» لا تنفصل عن المشروع ذاته، وكذلك مجموعة «بنت ليل» السابقة عليها. تناولتُ فيهما عالم الهامش، برؤيتين مختلفتين، ولكل منهما لغتها. ما قررته وأردته - آنذاك - أن أدخل عالم الكتابة بنص إنسانى، لأننى علمتُ منذ البداية أن الإنسان هو جملتى الكبيرة. حتى مع وجود الخيال وغيره، سيظل الإنسان هو العنوان الأهم داخل نصى الأدبى. الفارق أن «فاصل للدهشة» كانت عن أناس الشارع تحديدًا، لأن تلك الفترة من حياتى قضيتُ الكثير منها فى الشارع، بسبب طبيعة عملى. الآن؛ لم يعد الأمر مقتصرًا على الهامش فقط، أصبحت المعادلة تضم طرفين: العالم والإنسان، أريد فهم العلاقة بينهما. لكن أسلوب تناولك لتلك الجملة اختلف بشكل كبير. هل تأثرت ببعض الأوصاف السلبية التى وُجهت إلى لغة «فاصل للدهشة» حينها، رغم حصولها على جائزة الدولة التشجيعية؟ لا، على الإطلاق. رؤيتى للكتابة قرار فنى خالص. أنا واعٍ تمامًا بجملتى الأساسية، لكن طريقة الدخول إلى هذا العالم يجب ألا تكون واحدة، ينبغى أن أبحث عن أبواب مختلفة، وأخترع أبوابًا جديدة أيضًا. لم أحبذ تكرار نفس العالم الفنى الذى نجحت به فى «فاصل للدهشة». أردتُ التجريب، وأن أجعل العالم نفسه يتكلم؛ الشجر، الألوان، الحيوانات، الجبال، الصحراء، البحر، كلها تتحدث وتنبض بالحياة. أعتبر العالم ملكى، مفتوحًا أمامى، وكل شىء فيه صالح للكتابة. لكن التحدى هو كيف أربط كل هذه العوالم المتنوعة فى خيط فنى متماسك، دون أن تبدو مجرد مقاطع منفصلة. «العالم» مصطلح دائم فى كتاباتك، بمختلف أشكالها، وصولًا إلى «حدث فى شارعى المفضل» التى اختفى فيها «العالم» تدريجيًا. ما تعريفك له؟ (عاد إلى الوراء واستغرق لحظات من الصمت والتأمل) «العالم» كما هو، بكل ما فيه، وأنا أقبله كما هو، بكل شروره وما يشهده من مآس. لا يعنى ذلك أننى بلا اعتراضات، لكننى أقبل وجود هذه الأشياء كجزء من الطبيعة الكبرى للحياة. لا أريد أن أقدم توصيفًا مجازيًا وأقول إن «العالم هو التجربة» لأن هذه إجابة شخصية تخص كل فرد على حدة. والعالم أوسع من فكرة الأرض وما يحدث عليها، عندما نضعها فى سياقها الحقيقى داخل الكون، تبدو نقطة صغيرة فى فضاء شاسع يضم مليارات الكواكب، وندرك مدى ضآلة ما نظنه عظيمًا. كل ما نعرفه عن الكون حتى الآن، وما نعتبره «العلم المهول»، لا يمثل سوى 5% منه، أى أنه ما زال هناك 95% مجهولًا بالكامل. أدرك أن العالم مثل أى شىء آخر، سيأتى وقت وينتهى، لكننى أرى أنه مرَّ بكوارث أسوأ من قبل، ومع ذلك، لم يتوقف، وقد كتبتُ عن ذلك فى إحدى روايتين وضعتهما حول كورونا فى 2020؛ أن العالم ليس بهذه التفاهة، ولن ينتهى لا بحرب ولا بوباء كما يتوقع البعض، هو أكثر تعقيدًا وأعمق من أن ينتهى بهذه الطريقة الساذجة. كل الأمور تُنسى فى النهاية؛ الحروب التى اندلعت عبر التاريخ، ومن قُتلوا فيها، ملايين المتشردين، كلهم كانوا هنا على هذه البقعة الصغيرة من الكون، ثم انتهى كل شىء. فلماذا نأخذ الأمور بجدية مطلقة؟ العالم لا يستحق إلا مرورًا خفيفًا، دون تشبث أو ثقل زائد. حتى حياتنا الشخصية، لا تستحق أن نغرق فيها تمامًا. هذه هى الطريقة التى أنظر بها للحياة. تقول إنك كتبت روايتين عن كورونا فى 2020. أين هما؟ قررت عدم نشرهما. حين كتبتهما كنت بحاجة لفهم ما يحدث فى العالم وقتها. لكن لاحقًا، بدأتُ أفكر: كيف يمكننى الكتابة عن الوباء بطريقة ممتعة؟ فأنا لا أحب أن أكتب أو أقرأ عن الأوبئة. لذلك؛ قلت إننى سأعيد صياغة الفكرة. لكننى لم أجد الوقت لكتابتها فيما بعد، وانشغلت بمشاريع أخرى. كنت تستعد العام الماضى لنشر مجموعة قصصية، لكنك عوضًا عنها أصدرت رواية. كيف تحدد ماهية عملك القادم؟ يعتمد ذلك على عدة عوامل، منها طبيعة العمل السابق، وما قبله أيضًا. بعد كتابة ثلاث روايات متتالية، أشعر بالحنين إلى القصة القصيرة، أرغب فى العودة إليها، فى استعادة متعتها، وممارسة هذه اللعبة مجددًا. لكن أحيانًا يظهر موضوع معين يثير حماسى، فأشعر برغبة فى الكتابة عنه فورًا. قد يكون السبب رغبتى فى استكشاف الفكرة مبكرًا، وأن أكون من أوائل من يتناولونها أدبيًا. هذا جانب مهم جدًا فى عالم الكتابة. فى كل عمل جديد أجدك تضع إشارة لرواية أو قصة سابقة لك. هل تتعمد ذلك؟ نعم. لكنها تظهر وحدها، فعلاقتى بالكتابة تجعلنى أشعر أنها كيان واعٍ، تمنحنى ما أحتاجه دون الحاجة إلى التصريح بذلك. فى الأعمال الثلاثة الأخيرة على وجه التحديد، شعرتُ بأن علاقتى معها باتت بلا أسرار، لم أعد مضطرًا إلى فرض شىء عليها، بل هى التى تقدم لى ما أحتاجه، دون أن تخبرنى بذلك مباشرة، أدركه لاحقًا عند مراجعتى للنصوص. الكتابة لاحظت أننى أحب ربط النصوص ببعضها، فقالت لى: «حسنًا، سأفعل ذلك لك». وهكذا، يبدو كل نص وكأنه يحمل داخله نواة لما سيأتى بعده، حتى وإن لم أكن واعيًا بذلك أثناء كتابته. ولهذا أخبرتك أن «فاصل للدهشة» ليست منفصلة عن المشروع، فقد اكتشفتُ العام الماضى أننى تناولتُ أفكار إحدى شخصياتها مجددًا فى رواية «أراك فى الجنة» دون أن أدرك ذلك وقتها. كأن الفكرة كانت مخفية عنى أنا نفسى، ثم اكتشفتها لاحقًا. بنيت رواية «أراك فى الجنة» بالكامل على فكرة الحوار الثنائى، ومن بعدها «غداء فى بيت الطباخة». ألم تخشَ ذلك؟ فى بداياتى، لم أكن أحب الحوار فى الروايات، وأتجاوزه أثناء القراءة، لأنه فى الغالب يكون طويلًا بلا داعٍ، يمتد أحيانًا إلى 40 جملة بينما لا يحتاج سوى 4 جمل فقط، لذا أمر عليه سريعًا بعينى، فأجد أننى لم أفقد أى شىء من القصة. بدأت رؤيتى للأمر تختلف مع «مزاج حر» حيث وجدتُ نفسى لأول مرة مطالبًا بكتابة حوار يمتد لنصف صفحة. تعاملتُ معه بحذر، لكننى أحببته. ثم جاءت «أراك فى الجنة» وبعدها «غداء فى بيت الطباخة». تدريجيًا، أصبحتُ أستمتع بالحوار وأتعامل معه بشكل مختلف، خاصة أنه يحمل أفكارًا أساسية لدىَّ، ويمثل امتدادًا لحوار داخلى مستمر. عندما أكتبه لا أجعل طرفًا يفوز على الآخر، لأننى نفسى لا أملك إجابات مطلقة، وإنما تساؤلات ورأيين، أمنح أحدهما لشخصية وأترك الآخر لشخصية أخرى. بالإضافة إلى أننى أُحب الثنائيات، سواء فى الأدب، أو السينما، أو فى الحياة نفسها، وأرى أن الحوار الثنائى فى الرواية من أصعب الأنواع ويتطلب مهارة خاصة، لأنه يحتاج مستوىً متكافئًا من التفكير بين الشخصيتين، وقدرة على إدارة النقاش دون أن يتحول أحد الطرفين إلى تابع ضعيف لإثبات أفكار الطرف الآخر. يبدو أن التجريب سمة تعيش بها، وتتضح كثيرًا فى كتابتك. هل تخطط لتجاربك مسبقًا أم تتركها تسير هكذا؟ التجريب جزء أساسى من علاقتى بالكتابة، لكنى أخطط لمشاريعى جيدًا، دون أن أبذل مجهودًا كبيرًا. ما أحتاجه - فقط - معرفة ثلاثة أشياء: جملة أحدد من خلالها لغة النص، مشهد يمنحنى نقطة أنطلق منها وأبنى عليها، ومن سيحكى القصة. وماذا عن اختيار أسماء شخصياتك أو صفاتها. من أين تأتى بها؟ أميل فى الأساس إلى إلغاء الأسماء، كى تكون الشخصية خالية تمامًا من أى تراث أو مرجعية سابقة لدى القارئ، سواء كان ذلك من تجاربه الشخصية أو من ثقافته العامة، أريد أن تنفرد الرواية بشخصياتها وألا يكون لها أى نسخ أخرى خارجها. الاختيار الآخر أن أقدم كل شخصية بلقب أو صفة مستمدة من دورها أو من موقف مرت به داخل القصة، وتلك لعبة فنية. أما أقصى حد من اللعب بالأسماء فكان فى رواية «ألف جناح للعالم» حيث استخدمت أسماء غير موجودة فى أى مكان فى العالم، وإذا جرب أى شخص البحث عنها، لن يجد لها أثرًا، وهذا قصدته تمامًا، لأننى أردت أن تكون الرواية خيالًا خالصًا، وأن تنتمى هذه الشخصيات - فقط - لعالم الرواية، ولا تحاكى أى شىء خارجها. خلقتها بالتركيب، بحيث تكون أسماء يمكن تصديقها، لكنها لا توحى بثقافة معينة ولا تنتمى إلى أى منظومة لغوية معروفة. كانت «ألف جناح للعالم» مختلفة بعض الشىء فى تكوينها وحجمها عن بقية رواياتك. هل قصدت ذلك؟ نعم. كان قرارًا متعمدًا. أردتُ حينها أن أكتب رواية كبيرة، وأحببتُ التجربة. وربما أكررها يومًا ما، إذا اشتقتُ لهذا الشكل من الكتابة. ورغم أننى أعدتُ كتابتها بالكامل لمدة عام، لكن التغيير كان فى اللغة والأسلوب، حجمها لم يتأثر. تتشابك القصص والعوالم السحرية داخل الرواية بشكل كبير، وهذا يقودنى إلى أن أسألك: هل ل«ألف ليلة وليلة» أثر خاص عليك؟ أنا لا أحب ألف ليلة وليلة، ولا أراه كتابًا عبقريًا. بالنسبة لى، هو مجرد سلسلة من الحواديت والحكايات المتتابعة، لكنه لا يفتح أى حوار مع عقلى. ليس من كتبى المفضلة، لأننى أبحث فى السرد عن لحظات توقفنى، تجبرنى على التفكير، تُحدِث معى تفاعلًا فكريًا، وليس مجرد تدفق متواصل للحكايات. سأخبرك بشىء عن الكتابة بشكل عام، وهذا بالنسبة لى كارثة حقيقية؛ هناك كمية هائلة من الأفكار المتوارثة عن الكتابة، وكأنها قوانين مقدسة يجب اتباعها دون نقاش. من بين هذه الأفكار، الافتراض بأن هناك مصادر معينة يجب أن يكون أى كاتب متأثرًا بها. على سبيل المثال؛ عندما يُقال إن ألف ليلة وليلة أثرت فى كل كتاب الواقعية السحرية، فهل هذا يعنى أنه يجب أن تؤثر فىَّ بالضرورة؟ لا، هذه تجربة شخص آخر، وليست قاعدتى الخاصة. التأثر شىء شخصى تمامًا، ولا يجب أن يُفرض على الكاتب كما لو كان قانونًا عامًا. وهذا لا يقتصر على التأثر بالمصادر الأدبية، بل يمتد إلى تقنيات الكتابة نفسها، مثل الفكرة الشائعة بأن الكاتب يجب أن يترك نصه جانبًا لثلاثة أو أربعة شهور قبل أن يعود إليه. لماذا؟ ماذا سأفعل فى هذه الشهور؟ كل هذه القواعد غير ملزمة، لأن كل كاتب لديه طريقته الخاصة فى الكتابة، ورتمه المختلف، وعلاقته الفريدة مع نصه. علاقتك بالكتابة تجعلنى أتحسس سؤالى حول ما تطمح إليه؟ أطمح إلى أن يقرأنى الإنس والجن، وأوراق الشجر، والسمك فى الماء، والنجوم فى السماء. أريد أن أمشى فى الشارع، ويكون كل ما هو قادر على الرؤية والسمع قادرًا على قراءتى، لأنهم سيحبون ما يقرؤونه. هل يمكن القول إنك تعتبر الكتابة شريكك الدائم؟ لا أحب كلمة شريك بأى معنى من معانيها، أنا والكتابة «أصحاب». كلمة شريك توحى بشىء ثقيل يقيدك، أما الصحبة فهى خفيفة وحرة وممتعة. مع الكتابة، العطاء متبادل أكثر من أى شراكة. ولذلك أنا ملتزم تجاهها؛ أعتبرها أولوية وخطًا أساسيًا، كل شىء آخر فى الحياة مجرد نقاط على هذا الخط، وعليه أن يتوافق معه، وإلا يُزاح فورًا. مؤخرًا، أشعر أننى والكتابة أصبحنا اثنين أعطى كل منا نفسه بالكامل للآخر، لكن هذا تطلب سنواتٍ من الالتزام، حتى صدَّقتنى الكتابة وقبلتنى. عمَ تخليتَ مقابل التزامك تجاه الكتابة؟ لا أشعر أننى تخليتُ عن أشياء كبيرة، ربما هناك أمور لم أفعلها، لكن الكتابة تستحق. هذا ليس ردًا دبلوماسيًا، ولكنى لم أشعر يومًا أننى فقدتُ شيئًا، لأن الكتابة ليست فى موضع اختيار مع شىء آخر، بل طريقة حياة، وتعوِّض أى شىء. مع ذلك، لا أحب جملة أن «الكتابة بديل»، أو أن «لو لم أكتب لجُننت»، فالكتابة ليست بديلًا، وليست وظيفتها أن تكون علاجًا. هى ببساطة شىء أحبُّه وأمارسه. على المستوى الشخصى، الشىء الوحيد الذى كنتُ أرغب فيه ولم أحققه بسبب ارتباطى بالكتابة؛ هو قضاء وقت أطول فى التجول حول العالم، لكن العالم نفسه أصبح أكثر انغلاقًا، فحتى لو أردتُ، لن أتمكن بسهولة من دخول البلدان والتنقل بحرية كما أتخيل. فقد كان حلمى المثالى، الساذج ربما؛ أن أتنقل بين الدول سيرًا على الأقدام. هذا كان جزءًا من الرومانسية الحالمة التى ظهرت مع شخصية «الأهبل» فى «لا تمت قبل أن تحب». أما أمنيتى المستحيلة فكانت أن تصبح لدىَّ ثلاث نسخ من نفسى: نسخة تكتب فقط، نسخة تعيش الحياة التى أريدها وتذهب إلى كل مكان وتخوض التجارب بلا حدود، ونسخة تقوم بالمهام اليومية العادية: تشترى الخبز وتأكل وتنام. هذه الفكرة استلهمتها فى رواية، لكنى لم أنشرها. لماذا لم تنشر هذه الرواية أيضًا؟ لأننى تجاوزتُ تلك التجربة سريعًا وانتقلتُ إلى مشاريع أخرى. الرواية كانت فى نهاية 2019، تتناول فكرة الذكاء الاصطناعى وإمكانية أن يكتب رواية. لكننى لم أعد إليها، لأننى لم أجد الوقت، ولم أعد أرى أنها تحتاج إلى النشر فى هذه اللحظة. كل أعمالك تحمل جزءًا منك بشكل ما، ومن أفكارك بالطبع، لكنها لا تقترب من سيرتك الذاتية. أليس كذلك؟ بلى. قد تتضمن لقطاتٍ، مشاهدَ، أفكاراً، مشاعرَ، لكن لا شىء فيها خاص أو شخصى. لا أحب أن أكتب عن نفسى، أو أن يقرأ أحد سيرتى. ولن أفعل ذلك أبدًا. كيف تتعامل مع كتب السِّير الذاتية؟ لا أقرؤها إطلاقًا، ولا أتذكر أننى اشتريتُ كتاب سيرة ذاتية من قبل، لا لأدباء، ولا لشخصيات عامة. ألا يخطر ببالك أنه قد يأتى من يكتب سيرتك ذات يوم، حتى ولو بعد سنوات طويلة؟ فليكن. لكننى أفترض أنه عندما أقول إننى لا أحب هذا، فإن العالم لن يفعله. هل تعتبر هذه وصية؟ (مبتسمًا) لا. لأننى لا أنوى الموت الآن. ولم تكن تنوى - أيضًا - التعامل مع «السوشيال ميديا» حتى قررت مؤخرًا استخدام تطبيق «واتساب» بعد سنوات طويلة من الامتناع. ما سبب موقفك تجاهها رغم أنك مهتم بالتكنولوجيا وكتبت رواية حول «روبوت»؟! لأن «السوشيال ميديا» ليست حياة حقيقية، وتستهلك الوقت بلا معنى. أريد أن أمسك الأشياء وأراها بعينى، أن أتحدث مع الناس وجهًا لوجه. أدبيًا وفنيًا، لا أشعر باحتياجى لها. أكتفى بمتابعة المواقع الثقافية، والأماكن التى تقدم معرفة حقيقية، وأملأ وقتى بما أريده وأحتاجه، لا بما يتم ضخه إلىَّ دون اختيار. فى المقابل، قد أمضى ساعات طويلة فى الشوارع والمقاهى، لكنه وقت يسعدنى، ليس ك«السوشيال ميديا» التى أشعر بأنها فضاء فارغ. فى إطار هذه العلاقة بينك وبين الكتابة. كيف تتعامل مع فكرة الجوائز؟ وهل تراها مفيدة للكاتب؟ المفيد للكاتب والكتابة أن تختفى كل الجوائز، وأن تذهب الكتابة مباشرة إلى القارئ. لكن الواقع ليس كذلك، الجوائز أصبحت جزءًا من المنظومة الأدبية. يُقال إن الجوائز تدعم الكاتب ماديًا، فهل هذا صحيح؟ لا، الجوائز لا تسند الكاتب كما يُقال، لأنها تمنح مكافأة لكاتب واحد، بينما هناك آلاف الكتاب الآخرين لا يحصلون على شىء. إذا كانت الجائزة تدعم الكاتب حقًا، فيجب أن تدعم مجموعة من الكُتَّاب. وفى كل الأحوال؛ الكاتب الحقيقى سيكمل طريقه فى الكتابة، حتى لو لم يحصل على الجائزة، وإذا لم يفعل، فهذا يعنى أنه لم يكن كاتبًا منذ البداية. لكنك تتقدم إلى الجوائز وتحصل عليها؟ نعم، لأن هذه هى قواعد اللعبة الأدبية حاليًا، ولا أنكر أنها مفيدة فى جزء منها، لكننى أتحدث عن الوضع المثالى للكتابة، وهو أن تختفى كل الجوائز، وأن يكون هناك فقط العمل والقارئ. فالجوائز تقوم بدور توجيهى، وهذا هو الجانب السيئ فيها، ينتظر القارئ قوائمها، سواء هنا أو فى الغرب، ما يعنى أن أعمالًا كثيرة تفوته. والقراءة - فى رأيى - مثل الكتابة، يجب أن تكون تجربة خالصة، وكما يعيش الكاتب تجربته مع النص؛ يجب أن يُترك القارئ ليعيش تجربته دون قوائم مسبقة أو ضغوط. خاصة أن الجوائز غالبًا تذهب إلى أعمال تقليدية، بعيدة عن التجريب والمغامرة الفنية، ونادرًا ما تُمنح لكاتب يخوض تجربة جديدة. بما أنك تضع خططًا مسبقة لمشاريعك. ما خطتك لعام 2025؟ لدىَّ عدة مشاريع أعمل عليها بالتوازى؛ مجموعة قصصية تعيد صياغة العلاقة بين الإنس والشياطين بشكل جديد تمامًا لم يُكتب من قبل. وكتاب يتضمن مقالاتٍ سبق نشرها، سأجمعها تحت عنوان «أنا أحب هذا العالم». والمشروع الرئيسى لهذا العام هو رواية، بدأتُ فيها، عن المتشردين. هل اخترت لها عنوانًا؟ نعم، لكننى لن أُفصح عنه. لماذا؟ كى لا تعاقبنى. ذات مرة، سألنى شخص عن قصة من المجموعة الجديدة، فحكيتها دون إذن منها. كنت أعرف أنها ستعاقبنى عندما أعود إليها، وقد فعلتْ. أعلم كيف يكون رد فعل الكتابة عندما أتعامل معها بهذه الطريقة. فما بالك بالإفصاح عن عنوان عمل لم أكتبه بعد! هذا أشبه بأن أكشف اسم حبيبتى دون إذنها.