على أحد المقاهي بوسط القاهرة، جمعنى مؤخرًا لقاء مع عدد من زملاء المهنة، أخذنا حديث مطوّل حول مشكلات صاحبة الجلالة، وكيف أن هناك ما يتهددها بقوة فى زمن بات «الذكاء الاصطناعي» عنوانًا عريضًا للمرحلة التى نعيشها وتسيطر عليها التكنولوجيا الذكية. قال أحد الزملاء إن أكبر خطر يهدد الصحافة اليوم هو «شات جى بى تي» وإخوته. بدا كلام الزميل منطقيًا إلى حد كبير، فحسبما قال فإن غزو «الأتمتة» بدأ يتسلل إلى مهن ووظائف كثيرة، ما يعنى أن الدور سيأتى لا محالة على الصحفيين ل«أتمتتهم»، لذا فإنه قرّر أن يبدأ مشروعًا موازيًا بجانب عمله فى الصحافة ليضمن بقاءه على قيد العمل، ولا ينضم للقابعين على كراسى العاطلين فى مقهى الحياة. زميل آخر كان يجلس صامتًا، لكنه فى الوقت ذاته كان يتابع حديث المجموعة باهتمام وتركيز شديد وهو يحملق فى وجوه المتحدثين بعينين جاحظتين، وحين سألته: «ساكت ليه؟ ما تقول رأيك»، فرد: «الصراحة أنا مش عارف يعنى إيه أتمتة».. فضحكنا وبدأنا فى شرح هذا المصطلح لأخينا الذى بدأ القلق يتسلل إليه. باختصار، الأتمتة (Automation) هى عملية استخدام التكنولوجيا والأجهزة والأنظمة التقنية الحديثة للقيام بالمهام والأعمال بشكل تلقائى أو شبه تلقائي، مع الحد من التدخل البشرى المباشر. والهدف هو زيادة الكفاءة، وتحسين الدقة، وتقليل التكاليف، وتوفير الوقت والجهد. وهنا تساءل صديقنا فى عجب: «يعنى الذكاء الاصطناعى دا هيكتب موضوعات صحفية وإحنا هنقعد فى البيت؟».. كان الذعر يملأ عينيه، فقد أنفق والده – رحمه الله – الكثير من المال عليه من أجل تعليمه وتحقيق حلمه فى أن يصبح ذات يوم صحفيًا مرموقًا، وها هو اليوم مهدد فى «أكل عيشه». سبب فتح هذا الموضوع أن عددًا كبيرًا من صحفيى اليوم وجد ضالته فى النماذج اللغوية الذكية التى تتمتع بقدرة فائقة على تقديم المعلومات وتحرير الأخبار وكتابة المقالات وصياغتها باحترافية، وهؤلاء ينقسمون إلى جزءين: الأول يمثل محدودى المهارات والقدرات الإبداعية، ويجدون فى هذا الوسيط التقنى أداة تساعدهم على تقديم مواد صحفية بصياغات رشيقة بلا أخطاء إملائية أو نحوية، وفريق آخر لديه الموهبة لكن ليس لديه الوقت الكافى لصياغة عشرات البيانات الصادرة عن الجهات المختلفة فى ظل تدفق الأخبار من كل مكان على مدار اليوم، وهذا الفريق الأخير لا يرتكن كليًا لمنجزات السيد «شات جى بى تي» أو منافسه الصينى المتوحش كالهزبر «ديب سيك»، بل يلقى نظرة على البيان بعد أن يتعامل معه الذكاء الاصطناعى الذى قد يرتكب كارثة فادحة. كانت فناجين القهوة وأكواب الشاى قد فرغت، ومضى أكثر من ساعة فى حديث لم يُحسم لطرف على حساب الآخر. واستمر الشد والجذب بين فريق يرى أن الذكاء الاصطناعى سيكتب شهادة وفاة مهنة الصحافة، وآخر يرى أنه مجرد أداة مساعدة إن أُحسِن استغلالها فإنها توفر الوقت والجهد، ويبقى الإبداع ملمحًا بشريًا يستعصى على أى آلة تقليده أو محاكاته. ولأن العالم يتطوَّر والعلم بطبيعته تراكمي، فكان لزامًا أن نوضح لزميلنا المهموم أن الذكاء الاصطناعى الذى اقترب من نضجه حاليًا ليس وليد اليوم، بل إن تجارب كثيرة ومحاولات عديدة أوصلته إلى شكله الحالي، فمن الناحية التاريخية، يعود مفهوم الذكاء الاصطناعى إلى فترة الخمسينيات من القرن الماضي، حيث تم تقديم مصطلح «ذكاء اصطناعي» للمرة الأولى من قبل العالمين الأمريكيين المتخصصين فى علم الحاسوب جون مكارثى ومارفن مينسكى وآخرين فى مؤتمر عُقد بكلية دارتموث فى الولاياتالمتحدة عام 1956، وكان الهدف من ذلك المؤتمر استكشاف إمكانية بناء آلات قادرة على محاكاة ذكاء البشر. ومنذ ذلك الحين، شهد ذلك المجال تقدمًا كبيرًا، وبدأ الباحثون بتطوير أنظمة قادرة على محاكاة مهارات البشر فى المجالات المختلفة، كالتعلم، والتفكير، واتخاذ القرارات. ومن بين الأحداث المهمة فى تطور مفهوم الذكاء الاصطناعي، كان اختراع الشطرنج الآلى عام 1997، عندما تمكّن جهاز الحاسوب «ديب بلو» من هزيمة بطل العالم فى الشطرنج السوفييتى جارى كاسباروف. وهذا الإنجاز أظهر قدرة الأنظمة الذكية على التفكير والتعلُّم، ومن هنا زاد الاهتمام بأبحاث الذكاء الاصطناعي. القصة كبيرة ولها جذور عميقة، وما وصلنا إليه اليوم يفوق الخيال، فبضغطة زرٍ واحدة بإمكانك أن تحصل على مقالٍ أروع بكثير من هذا الذى تقرأه الآن. هذه ليست مبالغة، فتقنيات الذكاء الاصطناعي التى تغزو عالمنا اليوم أصبح لديها القدرة على مجاراة عقل الإنسان بل والتفوق عليه بفضل آلية «التعلُّم العميق»، وهى تدريب الآلة على الإبداع وتغذيتها بمليارات المعلومات، ما يجعلنا أمام مجهول يصعب توقع مآلاته مستقبلًا، وهو أمر فى الحقيقة يثير الكثير من القلق والخوف.. فهل هذا الخوف جائز ومشروع؟! والآن دعونى أعيد طرح السؤال مجددًا: هل من حقنا أن نخشى من الذكاء الاصطناعى ونتعامل معه باعتباره «بعبع»؟ الإجابة نعم، لكن ليس الخوف الذى يعوق التقدم، بل الخوف الذى يدفعنا إلى التخطيط بعناية وحذر، ووضع الضوابط اللازمة لضمان أن يكون هذا الذكاء الاصطناعى فى خدمة البشرية، وليس ضدها أو مدمرًا لها. المستقبل يعتمد على كيفية إدارة البشر لهذه التكنولوجيا الحديثة والعمل على ترويضها لصالحنا، وعلى قدرتنا على التعلم من دروس الماضى لبناء مستقبل أفضل لنا وللأجيال القادمة. نسيت أن أقول لكم إن زميلنا المهموم الخائف على «أكل عيشه» قرر فى نهاية الجلسة أن يبدأ دورة تدريبية فى مجال الذكاء الاصطناعي، للاستفادة من تطبيقاته فى مجال صناعة المحتوى الرقمي، فهل تعتقدون أنه سينجح أم إن الذكاء الاصطناعى سوف يهيمن على كل المهن ولن يترك شيئًا للبشر؟!