حرصت عقب انتهاء أعمال (قمة فلسطين) فى القاهرة على متابعة ردود الأفعال، وتعامل الأطراف الدولية مع تحول الخطة المصرية إلى خطة عربية، تتبنى رفض التهجير القسرى للفلسطينيين خارج أراضيهم، وتتبنى عملية إعادة إعمار قطاع غزة فى وجود سكانه، مع التركيز على حكم القطاع من جانب لجنة فلسطينية تعمل تحت مظلة الحكومة الفلسطينية لفترة انتقالية، وتتكون من كفاءات أبناء القطاع، وذلك مع إدانة عربية لقرار الحكومة الإسرائيلية بغلق المعابر أمام المساعدات الإنسانية. تعاملت الخطة المصرية -التى أصبحت عربية بعد موافقة كل الدول المشاركة فى القمة غير العادية- مع التحدى الوجودى، الذى تواجهه القضية الفلسطينية بواقعية شديدة، وتحدثت بوضوح عن أن السلام هو خيار العرب الاستراتيجى، وأن الشراكة مع الولاياتالمتحدة قائمة من أجل تحقيق السلام الشامل والعادل على أساس إنهاء الاحتلال الإسرائيلى، وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، بما يضمن إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدسالشرقية. جاء أول رد فعل مهم من رئيس الولاياتالمتحدة فى خطاب حالة الاتحاد، وهو الخطاب الأهم لدونالد ترامب أمام الكونجرس الأمريكى، الذى لم يتطرق لخطته السابقة لغزة، ولكنه ركز على خروج الرهائن والمحتجزين والبناء على اتفاقيات السلام، فيما أشار البيت الأبيض فى بيانه إلى أن الخطة العربية لم تستجب لكل التخوفات، وأن الرئيس دونالد ترامب يتمسك برؤيته الخاصة لمستقبل غزة بعد ما أصبحت غير قابلة للحياة، وقال ستيف ويتكوف المبعوث الأمريكى للشرق الأوسط إن هناك انفتاحًا أمريكيًا للنقاش والتعاون مع الدول العربية، فيما أعرب أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة عن ترحيبه وتأييده الشديد للخطة العربية، وقال إن الأممالمتحدة مستعدة للتعاون التام فى هذا المسعى، وأكد ألا مستقبل لغزة إلا كجزء من الدولة الفلسطينية. أما أوروبا، فأعلنت انفتاحها على الخطة العربية، وأن الاتحاد الأوروبى يرفض أى تغيير ديموغرافى أو جغرافى فى غزة أو الضفة الغربية، وشدد على أن حل الدولتين هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام، وأعلنت أيضًا التزامها بالعمل مع الشركاء الدوليين والعرب لضمان إعادة إعمار غزة. انفتاح أمريكى وتجدر الإشارة إلى تحليل فى غاية الأهمية كتبه الدكتور محمد كمال أستاذ العلوم السياسية والخبير المرموق فى الشأن الأمريكى عن ردود الأفعال الأمريكية، أشار فيه لوجود مساحة للحوار مع الولاياتالمتحدة وتحديد الخلاف حول رفض أمريكى إسرائيلى لوجود حماس فى القطاع، ولفت إلى وجود عبارة متكررة فى كل البيانات الأمريكية وهى (نتطلع لمزيد من المحادثات لإحلال السلام والازدهار فى المنطقة). لم تذكر البيانات الأمريكية الأخيرة كلمة التهجير، وهو تطور فى الموقف الأمريكى الأول الذى تحدث عن تهجير سكان القطاع بسبب عدم صلاحيته للسكن حاليًا، وهو ما أوضحت مصر بشأنه أن لديها خطة لإعادة الإعمار دون خروج السكان، وهى خطة قابلة للتطبيق، وبدأت بالفعل مراحلها الأولى بعبور الكرافانات المصرية إلى داخل القطاع وبدء عدد من سكان القطاع فى الإقامة فيها. قدمت مصر حلًا مثاليًا لمعضلة حماس عبر طرح فكرة أن تتولى لجنة من التكنوقراط إدارة غزة، وأن تقوم مصر بتدريب الكوادر الأمنية الفلسطينية لتتولى مهام حفظ الأمن داخل القطاع، بالإضافة لوجود قوات دولية تابعة للأمم المتحدة ترعى باستمرار فض الاشتباك بين الفلسطينيين والإسرائيليين. كما أعلن الرئيس الفلسطينى محمود عباس أبو مازن خلال لقائه مع الرئيس عبد الفتاح السيسى حزمة من الإصلاحات السياسية، أبرزها استحداث منصب نائب رئيس السلطة الفلسطينية، وإصدار قرار بالعفو عن المفصولين من حركة فتح فى إطار لم الشمل الفلسطينى، والتوصل إلى تفاهمات تضمن حماية القضية الفلسطينية. السلام لن يأتى بالقوة ومن المهم الإشارة إلى حديث الرئيس عبد الفتاح السيسى حول تصدى مصر بموجب موقفها التاريخى الداعم للحق الفلسطينى لعمليات تفريغ قطاع غزة من سكانه بقوة السلاح، وأن تمسك الشعب الفلسطينى بأرضه هو مثال للصمود والتمسك بالحقوق. فالرئيس رفض بوضوح استمرار الاعتداءات على المسجد الأقصى والمساس بوضعه القائم، وأعلن أن القدس ليست مجرد مدينة، بل هى رمز لهويتنا وقضيتنا، وشدد على أن الحديث عن التوصل لسلام فى الشرق الأوسط دون تسوية الصراع الفلسطينى الإسرائيلى هو لغو غير قابل للتحقق، وأنه لن يكون هناك سلام حقيقى دون إقامة الدولة الفلسطينية، وأن السلام لن يتأتى بالقوة، ولا يمكن فرضه عنوة. وطرح الرئيس فى كلمته القوية والشاملة التجربة المصرية الناجحة فى السلام باعتبارها النموذج الأفضل فى المنطقة، ودعا للنظر إلى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 بواسطة أمريكية، وأنه آن الأوان لتبنى مسار سياسى جاد وفعال، يفضى لسلام دائم من خلال التعاون مع الرئيس ترامب، فى ظل وجود رغبة صداقة لوضع نهاية للتوترات والعداءات فى المنطقة. ماذا بعد القمة؟ ما يمكن البناء عليه عقب القمة من واقع بيانها وحديث الرئيس السيسى أنه لا توجد خلافات بين الدول العربية والولاياتالمتحدة، بل اختلافات فى وجهات النظر حول الحل، يمكن تقريبها وحلها بالحوار والتفاهمات المشتركة، وهناك بالفعل قنوات اتصال مفتوحة يمكنها تقريب المسافات والبناء على مساحات الاتفاق، مثلما قال الدكتور محمد كمال وأنا أتفق معه تمامًا فى ذلك. فى خطاب توليه السلطة، تحدث الرئيس ترامب عن رغبته فى أن يكون رجل سلام ينهى كل الحروب، وهو ما ينتظره الشرق الأوسط منذ سنوات، ويحتفظ ترامب منذ ولايته الأولى بعلاقات قوية مع كل القادة العرب، وهو ما يمكن التعويل عليه فى تقديم الخطة العربية باعتبارها موقفًا عربيًا موحدًا، هدفه الأساسى استدامة التهدئة والبحث عن حل شامل يحفظ الأمن للجميع. عبرت مصر فى القمة عن تمسكها التاريخى بالحقوق الفلسطينية، وطرحت السلام من بوابة التجربة المصرية الناجحة، وقدمت خارطة طريق للحل الشامل، محورها الأساسى هو الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، وهو التزام قبلت به كل الأطراف. وأرى أن التزام العرب بالشراكة مع الولاياتالمتحدة لصنع السلام هو عمل واقعى وإيجابى، فهى مازالت الطرف القادر على إقناع إسرائيل وضمان التزامها باتفاقياتها، وطرح اتفاقية السلام المصرية المستمرة دون خروقات لمدة 46 عامًا كنموذج لنجاح الوساطة الأمريكية فى إحلال السلام يضع أمام إدارة ترامب بديلًا مناسبًا اتفق عليه الجميع، وذلك للبناء عليه فى وضع تصور جديد لليوم التالى، يبدأ بتوحد فلسطينى، وينتهى بحل الدولتين، ويُنهى حالة العداء الشديد والكراهية السائدة والنزاعات الانتقامية، ويمكن لوساطة ترامب أن تحقق تقدمًا يستلهم النجاح الذى تحقق فى المسار المصرى الإسرائيلى. وتحقيق ذلك المسار يحتاج لجهد تفاوضى واستثمار التوحد العربى والانفتاح الأمريكى، فعبر التفاوض والاجتماعات المشتركة العربية الأمريكية يمكن إنجاز اتفاق فلسطينى إسرائيلى طال انتظاره. طرحت مصر فى القمة الحل بعقلية راعى السلام وبخبرة أكثر من 75 عامًا فى التعامل مع القضية الفلسطينية، فهى تعلم جيدًا مكامن الخطر ومسارات الأمان، واختبرت الصراع المسلح وتبنت السلام العادل، وتنتظر من الرئيس ترامب إحداث تحول -هو قادر عليه- نحو سلام عادل وشامل يوقف دوران الشرق الأوسط فى حلقة مفرغة من الصراع اللا نهائى، الذى لا يضمن أمنًا أو استقرارًا لأى طرف.. سلام يحول مسار المنطقة من حالة العداء والكراهية والنزعة الانتقامية إلى التعايش المشترك والتعاون من أجل استعادة الهدوء، وأيضًا التعاون الاقتصادى وتحقيق الرخاء المنتظر.