إذا كان الاقتصاد هو شريان الحياة لأى دولة، فإن المرور هو الدم الذى يجرى فى هذا الشريان، وحين تتوقَّف حركة الشوارع، لا يكون الأمر مجرد أزمة سير، بل شلل اقتصادى كامل، ونزيف مستمر يلتهم المليارات من ميزانية الدولة، ويفتك بإنتاجية المجتمع، ويُحوِّل المدن إلى كتل خرسانية مختنقة بلا أفق. لأعوام طويلة، كان مشهد القاهرة المُتكدسة جزءًا من الحياة اليومية، شوارع تلتهم السيارات، طرقٌ تحتضر تحت وطأة الزحام، ساعات ضائعة من أعمار المصريين، وطاقة مهدرة بلا طائل لم يكن الأمر مجرد مشقة شخصية، بل كان كارثة وطنية، تُقاس بحجم الخسائر التى يتكبدها الاقتصاد يوميًا بسبب التكدس. فى الأرقام وحدها تكمن الحقيقة الصادمة التى عشناها سنوات: - تشير الدراسات إلى أن القاهرة الكبرى كانت تخسر مليارات الجنيهات سنويًا بسبب التكدس المرورى، بين استهلاك وقود إضافى، وزيادة الانبعاثات الكربونية، وتأخير الإنتاج، وانخفاض كفاءة الأعمال، فضلًا عن تآكل البنية التحتية بفعل الضغط الهائل على الطرق. تتسبَّب الأزمة فى زيادة استهلاك الوقود بنسبة تصل إلى 30% يوميًا بسبب الحركة البطيئة، ما يرفع تكلفة الدعم الحكومى للبنزين والسولار، ويؤدى إلى استنزاف الموارد المالية. - أكثر من 3 إلى 5 ساعات يوميًا يقضيها المصريون فى الطرق، ما يعنى انخفاضًا حادًا فى الإنتاجية القومية، وتأثيرًا مدمرًا على الصحة النفسية والجسدية للسكان. لذا، فإن الحديث عن المرور فى مصر ليس مجرد نقاش حول إدارة الطرق، بل هو ملف سيادى مرتبط بقدرة الدولة على العمل والإنتاج والتنافس فى الاقتصاد العالمى. حان وقت التغيير.. لا مكان للمسكنات المؤقتة كانت الحلول السابقة أشبه ب «مخدرات مؤقتة»، تُسكِّن الألم لكنها لا تُعالج المرض لم يكن بالإمكان الاستمرار فى الترقيع، بل كان لابد من ثورة شاملة فى التخطيط المرورى، تعيد رسم خريطة العاصمة من جديد وفى هذا الإطار، أطلقت الدولة المصرية سلسلة من المشروعات الجريئة، التى أعادت تعريف معنى البنية التحتية، وصاغت رؤية جديدة للحركة داخل القاهرة الكبرى وكان من بين أهم هذه المشاريع: 1. محور حسب الله الكفراوى.. الشريان الجديد للقاهرة الجديدة والذى يُعدُّ من أهم المحاور التى غيَّرت قواعد اللعبة، حيث ربط بين مدينة نصر، والمقطم، وزهراء المعادى، فخفَّف الضغط عن الطرق التقليدية، وأعاد توزيع الكثافة المرورية فى شرق القاهرة. 2. محور 3 يوليو.. خطوة استراتيجية لفك الاختناق، وقد جاء هذا المحور ليكون بديلًا حقيقيًا عن الطرق التقليدية التى أصبحت غير قادرة على استيعاب النمو العمران ويربط بين محور حسب الله الكفراوى وطريق الأوتوستراد، ثم يمتد إلى كورنيش النيل وصولًا إلى طريق الصعيد الزراعى الغربى، مما يخلق شبكة مرور أكثر انسيابية. ماذا حقَّقت هذه المشروعات؟ - خفض زمن الرحلات اليومية بنسبة تصل إلى 40%، وهو ما يعنى استعادة ملايين الساعات المُهدرة فى الزحام. - تقليل استهلاك الوقود، وهو ما يُخفِّف العبء عن ميزانية الدولة فى دعم المحروقات، ويُخفض من تلوث الهواء القاتل فى القاهرة الكبرى. - تحسين جودة الحياة، فالسفر بين شرق وغرب القاهرة لم يعد كابوسًا كما كان فى الماضى. لكن الحل ليس فى الأسفلت وحده.. بل فى العقلية، إن بناء المحاور الجديدة هو خطوة عملاقة، لكنها لن تكون كافية إذا لم تتغيَّر عقلية التعامل مع الشوارع، فالزحام ليس فقط نتيجة سوء التخطيط، بل أيضًا نتاج للفوضى السلوكية، وانعدام الالتزام بقواعد المرور، والفكر العشوائى الشائع فى شوارعنا. إذا أردنا إنهاء الكابوس المرورى، فعلينا: 1.إنهاء ثقافة الفوضى فى الشوارع، فلا معنى لمحاور عملاقة إذا استمرت ظاهرة الانتظار العشوائى، وتكدس الميكروباصات فى غير أماكنها، وتحويل الطرق السريعة إلى أسواق مفتوحة. 2.الاستثمار فى النقل الجماعى؛ لأن الحل ليس فى زيادة عدد السيارات وهو ما يتم بالفعل الآن، بل فى توفير بدائل ذكية وفعّالة تُقلل الحاجة إلى المركبات الخاصة. 3.تطبيق القانون بحزم، فلا يُمكن أن تستمر الفوضى تحت غطاء التسامح، فالمدن الكبرى لا تتحرك إلا عندما تكون القوانين محترمة ومطبّقة. إن مصر اليوم تقف أمام نقطة تحول حقيقية، ما حدث فى السنوات الأخيرة من تطوير مرورى لم يكن مجرد مشروعات عابرة، بل هو إعلان صريح أن الدولة قررت كسر القيود التى خنقت العاصمة لعقود، فالمرور ليس رفاهية، بل هو مقياس لمدى كفاءة الدولة، ومدى قدرتها على تحقيق التنمية المستدامة. لا يمكن لأى اقتصاد أن ينمو إذا كانت شوارعه مختنقة، ولا يمكن لأى مدينة أن تزدهر إذا كان التنقل داخلها عقوبة يومية لسكانها. لذا، فإن المشروعات الحالية ليست نهاية الطريق، بل بداية لمرحلة جديدة، حيث يصبح المرور فى القاهرة أداة تحفيز للنمو، وليس عائقًا أمامه. لقد استثمرت الدولة المليارات فى إعادة بناء البنية التحتية، والكرة الآن فى ملعب المواطن: هل نريد أن نعود إلى الفوضى القديمة؟ أم أننا سنحافظ على هذا الإنجاز ونرتقى بثقافتنا المرورية إلى مستوى المدن الكبرى؟ الخيار لنا، ولكن النتيجة ستحددها تصرفاتنا اليومية فى الشوارع.